من خلال ما قدمناه في الحلقات السابقة يلاحظ وجود خمس مناطق سكنى، على الأقل، في جزر البحرين في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، واحد (أو أكثر) في جزيرة المحرق، وأربع مناطق للسكنى في أوال في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، ثلاث من تلك المناطق لها علاقة بمقطع خليج توبلي: الأولى في البلاد القديم، والثانية في موقع سار الأثري، والثالثة في عالي. أما الرابعة فهي في باربار. كذلك، فقد أوضحنا أن البحرين كانت جزءاً من شبكة التجارة البحرية التي أسسها الساسانيون، ويبقى السؤال ما هي موانئ البحرين في تلك الحقبة؟ وما طبيعة الأنشطة البحرية فيها؟
المرجح أن موانئ البحرين القديمة ارتبطت بمواقع الاستيطان الساسانية في جزيرة البحرين، وهي ثلاث مواقع أساسية، الأول في جزيرة المحرق بالقرب من قلعة عراد، حيث اكتشف بئر يحتوي على العديد من قطع الفخار الساساني (Kervran 2005, p. 247)، ويرجح أن يكون هناك ميناء في مكان ما على جزيرة المحرق قريب من هذا الموقع. أما الموقع الآخر فهو على الساحل الشمالي لجزيرة أوال بالقرب من معابد باربار حيث اكتشف فخار ساساني بالإضافة إلى تمثال بارثي - ساساني، وقد رجح أن يكون هناك معبد ساساني بالإضافة إلى قرية ساسانية في هذا الموقع (Andersen and Kennet 2003, pp. 307 - 313). يذكر أن هذا الساحل اشتهر بكونه أقدم ميناء في البحرين منذ حقبة دلمون. أما الموقع الثالث فيقع في موقع سار الأثري، وقد تحدثنا عنه بالتفصيل في الحلقة السابقة، ورجحنا أنه مرتبط بميناء على الساحل الشرقي لجزيرة أوال.
هذه الموانئ الثلاثة عملت منذ القرن الخامس الميلادي في نقل العديد من المواد التجارية للبحرين، إلا أنها نشطت بصورة أساسية منذ القرن السابع الميلادي، ومن أهم المواد المستوردة التي كشفت عنها الدراسات الآثارية أنواع من الفخار الذي كان يستورد من العراق وعمان وإيران والهند والصين وقد سبق الحديث عنها بالتفصيل. أما الصادرات، فلا يوجد أي تحديد لها بسبب قلة ما عثر عليه. وقد رجحنا في حلقة سابقة أن البحرين في القرن التاسع الميلادي اشتهرت بتصنع نوع من أظفار الطيب الذي ربما عرف باسمها (الأظفار الماشماهية). يذكر أن القواقع التي يستخرج منها هذه الأظفار لا تجمع فقط من على السواحل بل ربما يغاص لها. جاء في كتاب «الجواهر وصفاتها» ليحيى بن ماسويه (توفي العام 857م) بأن الغاصة إذا غاصوا في البحر فإنهم كانوا يبحثون عن ثلاثة أشياء أساسية إما محار اللؤلؤ أو الأظفار أو شعر الجن أي المرجان (طبعة دار الكتب 1976، ص 40). وعلى رغم ذلك لم يعثر في جزيرة أوال على دلائل قطعية تشير لعملية الغوص لاستخراج اللؤلؤ. ولكي نتمكن من تعليل سبب ذلك سوف نتطرق لتسلسل تاريخ الغوص في البحرين منذ حقبة دلمون.
أنماط الغوص في البحرين قديماً
لم تكن السواحل كما هي اليوم، فلم يكن هناك دفان ولم تكن مسورة بأسوار ولم تكن السواحل من ضمن الأملاك الخاصة، ولا يوجد من يستنزف كل خيرات البحر، بل كانت سواحل بكر. وفي مثل هذه السواحل يكثر محار اللؤلؤ بصورة كبيرة بحيث يمكن أن يجمع على أعماق جداً بسيطة فهو قريب جداً من سطح الماء ويرى بالعين، إن هذه الظاهرة ليست بالغريبة فحتى فترات قريبة كانت هناك مناطق على سواحل البحرين، وسواحل أخرى في الخليج العربي، يكثر فيها محار اللؤلؤ. وطريقة جمع محار اللؤلؤ باليد من الأماكن الضحلة ليست بالغريبة في الخليج العربي، وهذا النمط الخاص من الغوص كان يعرف بغوص المجانة (لمينة).
وقد كانت هناك العديد من مغاصات اللؤلؤ القريبة من الشواطئ، بالإضافة إلى مغاصات توجد في المناطق العميقة، وكانت تكفي القوارب الصغيرة لعملية الغوص. أضف إلى ذلك عدم توجه رؤوس الأموال الكبيرة لمثل هذه التجارة. كل ذلك شجع على تكون نظام معين للغوص قديماً ربما كان هو السائد، فكانوا يخرجون في مجموعة صغيرة في قارب صغير.
هذه الطريقة في الغوص لم تنقرض بل تطورت عبر الزمن لتعطي مجموعة من أنماط الغوص وهي تلك المجموعة التي يقوم فيها الغواصون بتنظيم عملية الصيد بأنفسهم سواء عن طريق تأجير قارب الصيد أو بالتشارك مع نوخذة يملك قارباً صغيراً للصيد، وهذا النوع يعتبر أكثر ربحاً للغواصين الذين يتولون بأنفسهم جميع أمور حملة الغوص، ويرى البعض أن هذا النوع يتلاءم أكثر مع التركيب السكاني الذي يغلب عليه النمط التقليدي المبني على العلاقات داخل المجتمع من جهة وضعف نسبة رأس المال التجاري المستثمر من جهة أخرى (الحميدان 1999). وهذا النظام عرف حتى في القرن العشرين ومنه عدة أنواع من أنظمة الغوص الفرعية وهي: غوص المرابعة، وغوص العزاب، وغوص المطامس.
ولهذه الأنماط من الغوص آليات يتم عن طريقها استكمال عمليات استخراج اللؤلؤ من المحار، وهذه الآليات تختلف من منطقة لأخرى، فلكل منطقة خصوصية معينة.
آلية الغوص في البحرين قديماً
من خلال الآثار التي عثر عليها (نناقشها لاحقاً) يمكننا أن نستنتج أن الآلية السائدة في عملية الغوص وجمع المحار واستخراج اللؤلؤ منه، كلها تتم في القارب نفسه، أي في البحر، ويتم بعد ذلك رمي فلقات محار اللؤلؤ التي تم فتحها في البحر. فهذه الطريقة لا تؤدي لتكدس محار اللؤلؤ في مناطق معينة، وهذه هي الطريقة التي استخدمت حتى القرن العشرين. أما الآلية الأخرى في عملية الغوص واستخراج اللؤلؤ، فهي أن تتم عملية الغوص واستخراج محار اللؤلؤ ومن ثم إعداد مخيم على ساحل البحر والقيام بفتح المحار في هذا المخيم. مثل هذه الطرق تؤدي لوجود أكوام كبيرة من المحار والتي ستكون معلماً بارزاً من معالم المناظر الطبيعية في البحرين. إن هذا النمط كان معروفاً في سيلان، وقد كان هذا أمراً إلزامياً من أجل قسمة الصيد وبعد عملية الفحص كان المحار يكوم في كوم كبيرة (Nielson 1958).
أما في البحرين فهذه الطريقة كانت نادرة، بدليل أنه لم يعثر إلا على تل واحد يتكون من ركام المحار يوجد في رأس الجزائر. وقد عثر في هذا الموقع على آثار لوجود مخيم، حيث عثر على العديد من المواقد. وكل موقد عبارة عن حفرة غير عميقة محفورة في الأرض، ولها سطح صلب أشبه بالإسمنت مع بقايا النار المعتادة من فوقه. ولا يعلم بالتحديد تاريخ هذا المخيم، فلم تكن هناك دراسة لتحديد عمر بقايا الكائنات الحية في الموقع باستخدام النظائر المشعة، لكنه يرجح أنه ينتمي للحقبة الدلمونية وذلك بسبب العثور على فخار يعود لتلك الحقبة (Nielson 1958). وأياً كان عمر هذا الركام، فهو دليل على ندرة استخدام مخيمات خاصة على الشواطئ لفتح محار اللؤلؤ في البحرين. وعلى العكس من ذلك، شياع هذه الطريقة على الساحل الشرقي للجزيرة العربية، فعلى مسافة أقل من ميل جنوب غرب الخبر توجد عدة تلال ضخمة من ركام محار اللؤلؤ تمتد جنوباً، وكل تلة يبلغ طولها قرابة 100 ياردة. ومن ضمن ما عثر عليه في هذه المنطقة أثقال الغوص الحجرية التي تربط في قدم الغائص لتنزله لقاع البحر (Cornwall 1946). وهنا أيضاً، لم يتم تحديد عمر بقايا الكائنات الحية.
الخلاصة
مما سبق، يمكننا أن نستنتج أن الآلية السائدة لاستخراج اللؤلؤ من المحار في البحرين بقيت ثابتة؛ حيث تتم في القارب نفسه وفي وسط البحر ولم تكن هناك مناطق خاصة على الشاطئ لتمارس فيه هذه العملية. وهذا يعلل سبب عدم الحصول على بقايا لمحار اللؤلؤ في الطبقات الآثارية الإسلامية المبكرة، على رغم أن هذه القرى كانت تبعد عن البحر كما في سار وعالي، وحتى في القرى القريبة من ساحل البحر كالبلاد القديم وباربار، لم يعثر فيها على بقايا محار اللؤلؤ. المنطقة الوحيدة التي عثر فيها على بقايا محار لؤلؤ هي في جزيرة المحرق، وقد تم تحديد عمر هذا المحار باستخدام النظائر المشعة، وأتضح أنه يعود للقرن الثامن الميلادي (Carter and Naranjo-Santana 2011, p.35).
إلا أن وجود دلائل آثارية في البلاد القديم تدل على تحضير أظفار الطيف فيها في القرن التاسع الميلادي (راجع ما سبق) يرجح أن جزر البحرين عرفت مهنة الغوص في الحقبة الإسلامية المبكرة؛ أي أن هناك امتداداً لهذه المهنة منذ حقبة دلمون، يتوارثها شعب البحرين جيلاً بعد جيل.
العدد 4256 - الجمعة 02 مايو 2014م الموافق 03 رجب 1435هـ