العدد 4256 - الجمعة 02 مايو 2014م الموافق 03 رجب 1435هـ

ما أقسى المنفى

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

جاءت حادثة إبعاد رجل الدين المعروف الشيخ حسين النجاتي من وطنه البحرين يوم الأربعاء (23 أبريل/ نيسان 2014) إلى لبنان، لتطرح مجدّداً سياسة الإبعاد التي شهدتها البلاد، سواء في ظل الحماية البريطانية، أو في عهد الاستقلال، وكأنها أضحت من ثوابت السياسة في البحرين، بمعاقبة المعارضين بالنفي عن الوطن.

مارس الإنجليز النفي بحق معارضيهم في البلدان التي يسيطرون عليها، وهناك سوابق تاريخية، فقد نفوا القائد الوطني المصري سعد زغلول إلى جزيرة سيشل إثر ثورة 1919. وبالنسبة للبحرين المحمية البريطانية، فقد نفوا الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، بعد أن وقع أسيراً لديهم، إثر سلسلة من النزاعات المسلحة مع منافسيه، وهجماته المتكرّرة على قطر، وهو ما وثقته حفيدته الشيخة مي آل خليفة. وفي التاريخ القريب قام المستشار السابق شارلز بلغريف بمحاكمة قادة الاتحاد الوطني المعارضة في محكمة خاصة بقرية البديع في نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، إثر مظاهرات واسعة احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر، وأصدر حكمه ضد القادة عبدالرحمن الباكر وعبدعلي العليوات وعبدالعزيز الشملان، بالنفي إلى جزيرة سانت هيلانة وسجنهم هناك.

لكن محكمة بريطانية، أعادت محاكمتهم وبرأتهم وأمرت حكومة البحرين بإصدار جوازات سفر لهم والسماح لهم بالعودة إلى البلاد، لكن حكومة البحرين لم تنفذ الحكم، وقد يكون ذلك بتواطؤ من الحكومة البريطانية المحرجة أمام القضاء البريطاني، وقد سبق للمستشار وحكومة البحرين أن أمرت عبدالرحمن الباكر بمغادرة البحرين في 1955 بدعوى تهدئة الأمور، وبالفعل عاش الباكر لأشهر بين بيروت والقاهرة، لكنه عاد إلى البحرين بعد اعتراف السلطات بشرعية هيئة الاتحاد الوطني، لتنفيه بعد ذلك.

وقد كان شعب البحرين يتوقع نهايةً لهذه السياسة المقيتة بعد الاستقلال، خصوصاً في ضوء العقد الاجتماعي بين الحكم وشعب البحرين بعد الاستفتاء الذي أجراه وفد الأمم المتحدة برئاسة نائب الأمين العام فيتوري جوشباردي في أوائل 1970، والذي اختار شعب البحرين بمقتضاه الاستقلال في دولةٍ تحترم حقوقه وسيادة البلاد. وبالفعل فقد ترتب على التحضيرات لإجراء أول انتخابات نيابية في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1973 بعد إقرار أول دستور للبلاد، عودة الكثير من المنفيين المعارضين بعد عفو ضمني. لكن جرى الرجوع لسياسة النفي بحق المعارضين مجدّداً في السبعينيات، فألغيت جوازات الكثير من الطلبة والمقيمين البحرينيين في الخارج، لإجبارهم على العودة إلى البلاد ومواجهة مخاطر على حياتهم أو البقاء في الخارج بحكم المنفى من دون أيه حقوق للمواطنة.

وقد تفاقمت سياسة النفي أثناء انتفاضة التسعينيات حيث أسقطت الجنسية عن مئات من البحرينيين من الأصول الإيرانية، وصودرت وثائقهم الثبوتية، وأركبوا «لنجات» خشبية متوجهة إلى إيران، والبعض إلى دبي، حيث انتهى الأمر بهم لاجئين هناك. كما عمدت السلطة إلى منع رجوع مواطنين معارضين من دخول البحرين حال وصولهم إلى مطارها الدولي بالمحرق، والتحقيق معهم ثم إبعادهم بجوازات سفر محدودة المدة والبلدان، ومن هؤلاء عبدالجليل النعيمي وعبدالله الراشد وحميد عواجي وعبدالهادي الخواجة، كما قامت بنفي شيوخ الدين الثلاثة، الشيخ علي سلمان والسيد حيدر الستري والشيخ حمزة الديري، إلى بريطانيا في أوائل 1995، حيث ظلوا هناك لاجئين سياسيين، حتى صدور العفو العام في بداية العهد الجديد في 2001.

لقد أتاح العفو العام الصادر عن الحاكم الجديد صاحب العظمة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة (جلالة الملك لاحقاً)، للمئات من البحرينيين المهجرين أو اللاجئين في الخارج وخصوصاً في إيران وبلاد الشام وبريطانيا وغيرها، الرجوع إلى البلاد واسترجاع وثائقهم البحرينية الثبوتية، بل وأمر حينها بإرسال طائرة خاصة مع ممثل عنه، وزير النفط عبدالحسين ميرزا، إلى إيران لجلب أكثر من مئة مهجر بحريني، وجرى إقامة احتفال رسمي ضخم في فندق الخليج في 2001 لتسليمهم جوازات السفر، فيما يشبه الإقرار بالخطأ الفادح المرتكب ضدهم وتصحيحه.

ورغم ما حدث من تراجعات في مجال الإصلاح، ورجوع الدولة للكثير من الممارسات القديمة ومنها والقمع ومصادرة الحريات، والتمييز الطائفي والسياسي وغيره، فلم يكن أحد يتوقع العودة إلى سياسة إسقاط الجنسية والنفي بحق المعارضين السياسيين، لكن أسوأ كوابيس الوطنيين البحرينيين قد تحققت عندما جرى إسقاط الجنسية عن 31 شخصية سياسية وحقوقية معارضة في 7 نوفمبر 2013، ووجد من كانوا منهم في الخارج منفيين قسراً في بلاد الشتات، فيما وجد من كان منهم حينها في البحرين، من دون جنسية ولا وضع قانوني سليم، حيث النفي مسلط على رقابهم، رغم وجود قضية أحدهم أمام المحكمة كنموذج للآخرين.

وقد جرى اختبار سياسة النفي مرةً أخرى بحق رجل الدين النجاتي، الذي أسقطت جنسيته قبل ذلك في سبتمبر/ أيلول 2010، ثم أعيدت إليه، بعد ضغوط محلية ودولية في نوفمبر 2010، واعتقد الكثيرون أن المسألة قد طويت، حتى بعد إسقاط الجنسية عنه مجدّداً ضمن مجموعة الواحد والثلاثين.

لكن من الواضح أن ما كنا نأمل به ونعتبره مرحلةً للمصالحة بين الشعب والحكم، وتوافقاً على مشروع وطني، قد تبدّد، وأن العقيدة الرسمية لم تتغيّر كثيراً، فمن ليس معنا فهو ضدنا، ومن نعتبره ضدنا عرضةٌ لكل شيء بما في ذلك النفي، وهي أقسى أنواع العقاب بحق الإنسان، لأنه يقتلع الإنسان من وطنه، ويسلبه روحه، ويجعله يعيش حياة اغتراب، في المنفى القاسي، وقد يدفعه لتقديم تنازلات مهينة للعودة إلى وطنه، ما يترك ندوباً عميقة في نفسيته.

لقد عشت حياة المنفى لعقودٍ وأعرف ما أقول، والكوابيس تلاحقني تكراراً خوفاً من الموت في المنفى، كما لا أنسى الإذلال الذي تعرّضت له من قبل سلطة سفارات البحرين أولاً، لإصدار أوراق ثبوتية لابني، وكذلك سلطات أكثر من بلد عربي وأجنبي، في الاعتراف بهويتي، وتمكيني من السفر والتنقل. وكم احتجزت في مطارات عدة بسبب ذلك، لكن ما جرى لمنفيين بحرينيين آخرين أسوأ من ذلك، فقد أرجعت جثثهم من البحرين إلى حيث انطلقت من السويد وسورية مثلاً. كما مات البعض حسرةً على فراق الأهل والوطن، وجرى سجن البعض في بلدان أخرى لمخالفتهم قوانين الإقامة، فيما سلم آخرون إلى سلطات الأمن في البحرين ليلاقوا العذاب.

رحلة المنفى للبحرينيين قاسيةٌ ومؤلمةٌ، وتستحق التوثيق والتكييف القانوني لمحاسبة من تسبّبوا بإلحاق الأذى بآلاف البحرينيين. لكن مطلوب الآن من الحكم في البحرين أن يدرك خطورة هذه السياسة وتبعاتها سواء بالنسبة للحكم، سواء بالعزم على تسوية وطنية ومكانته في المجتمع الدولي، أو على هؤلاء المواطنين ومعاناتهم، والتي تستثير ردود فعل غاضبة سواءً من أهاليهم وعموم الناس، أو المنظمات الحقوقية البحرينية والدولية، وستجد المعارضة نفسها محرجةً في الدخول في أية حوارات مع السلطة في ظل استمرار سياسة النفي والإكراه ومحاولات الإذلال.

وهكذا سيستمر الاستعصاء والبقاء في النفق المظلم، وهو ليس في صالح الحكم ولا الشعب.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 4256 - الجمعة 02 مايو 2014م الموافق 03 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 18 | 10:35 ص

      عجبي

      يعتقد من يظلم الان .. ان لا وجود للخالق لينتقم منه ! فانتظروا انا معكم منتظرون

    • زائر 16 | 9:06 ص

      ما أقسى المنفى

      أتخشونهم فالله أحق أن تخشاه حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. يمهل ويمهل ويمهل ويقيناً لا ولن يهمل. التاريخ يتكلم

    • زائر 14 | 8:59 ص

      أتخشونهم فالله أحق أن تخشاه

      حسبنا الله ونعم الوكيل

    • زائر 11 | 4:02 ص

      كما فعل العقيد الفار في التسعينات في الناس كانوا ياخذون الاموال ويسرقون المنازل ويهددون ضحايهم وجمعوا الثروات عل حساب الفقراء نفسهم اليوم الذين يبتزون الشرفاء وتهجيرهم ثبنفس العقلية ولم يتغير شيئ سوى الوجوه راح عقيد وفر وجاء بعده عقيد .

    • زائر 10 | 2:51 ص

      عزيزي الكاتب

      الغربه صعب جدا في الثمانينات سمعنا عن عائله منفيه لبلاد بوشهر مات حسره وغصه على فراق البحرين ولم يفتحوا امتعتهم املا في رجوعهم لبلادهم البحرين

    • زائر 9 | 1:05 ص

      ذكرت من هو طوعا غادر الى المنفى

      ولم تذكر من هو منسي و رغم إنه قيادي في المعارضة ابان الاستعمار البريطاني ودفع ثمن الى النفي اكثر من مرة وداق الويلات في براري الامارات ودول اخرى وهو عبدعلي المقهوي .

    • زائر 8 | 12:53 ص

      الغربه مره

      احسنت أيها الأخ العزيز يا أستاذنا في الواقع لا يحس بألم الغربه والبعد عن الوطن الا من عاش هذه التجربة المريره وعندما قرأت مقالك تذكرت ايام الغربه ومعانتنا فيها وما نعانيه حاليا أدعو الله بالعودة لكل غريب وَبَارِكْ الله في قلمك الشجاع والى الامام

    • زائر 6 | 12:15 ص

      التاريخ يعيد نفسه منذ الاحتلال الى الآن الطريق واحد

      كل من يعارض سياستهم ويطالب بحقوق هذا الشعب يكون جزء من العقاب هو النفي . لم يغير ذهاب الاحتلال شيء طالما بقيت نفس السياسة متفشية

    • زائر 5 | 11:37 م

      التغير قادم لا محالة

      وما أكثر المنفيين
      الغربة صعبة والله وآثارها تشمل الكل
      وعلى المدى القصير و البعيد
      ورغم الجراح أحبك يا وطني

    • زائر 4 | 11:17 م

      ماذا عن الآخرين؟

      ماذا عن أولئك المنفيين لطلب العيش في كل بلاد العالم بسبب الظروف التي خلقتها الأزمة الأخيرة . الكثير منهم لا تهمه السياسة و بعضهم لم يشارك في أي مظاهرة أو احتجاج بل و الكثير منهم أصحاب شهادات عليا واختصاصات. هويتهم الطائفية سببت تشريدهم ومنعهم من فرصتهم في المساهمة في بناء البحرين. لا أستوعب الهدف من ذلك..هل تريد الحكومة أن تخلق بالقوة معارضة من "الكفاءات الحقيقية"؟ ذلك ليس في صالحها على المدى الطويل.

    • زائر 3 | 11:05 م

      النفي سئ لكن ما هو الأسوأ ..؟؟؟؟؟

      النفي سئ سئ لكن الاسوا هو ان يتم على يد اجانب ومن يقوم به اجنبي تقابله في المطار ويامر بتسفيرك قاتلكم الله يا من ماتت فيكم الغيرة والانسانية مادا تركتم لغدكم وهو قريب ان شاء الله

    • زائر 2 | 10:48 م

      ستراوي

      بارك الله فيك بن العكري الشريف

    • زائر 1 | 10:38 م

      ستنعكس الآية

      المهجر سيعودون وقد يهرب من هجرهم وهذا التاريخ أمامنا.

اقرأ ايضاً