كيف تقرر أن ذلك تخلُّفاً، وأن ذلك نقيضه؟! الأول لا يرى حركة العالم من حوله. يرى حركته هو. يؤمن، يثق، يطمئن أنه في ذروة تقدّمه وسبْقه. الثاني يمضي دون أن يلتفت لما قطع من خطوات. لا ينشغل بما قطع من طريق، ولا ينشغل بالوصول أيضاً، ففي وصوله نهاية. هو لا يريد النهاية. يريد الاستمرار في البحث والكشف والمحاولة. كل ذلك بالنسبة إليه محاولة. ذلك ما يدفعه على الدوام إلى مزيد من القفزات، ومزيد من تحقق أثر حركته وفعله.

***

في التخلّف اليوم - عربياً على الأقل - انسجام، ورضا، وقناعة، واطمئنان أيضاً. اطمئنان إلى أن العالم يقوم بالدور. الآخر يطّلع بالمسئولية. يواري سوأة هذا الجزء من العالم (العالم العربي)، من حيث توفير حاجاته، وتفاقم مرض الاستهلاك لديه.

استمراء الاستهلاك – عربياً – شهادة امتياز، بأن ثروات المصادفة لديه كفيلة بأن تجعل العالم خادماً له. العقول في الجانب الآخر من ذلك العالم تفكّر بالنيابة عنه، تبدع الدواء لأمراضه وعلله، وتنجز أدوات وطرق رفاهيته، وانتقلت، وتنتقل به من المضارب في الصحارى، إلى الأبراج العملاقة. تلك التي تمثل واحداً من مساحيق القبح والبشاعة والتخلف. يسأل أحدهم: منذ متى كان الأسمنت والحديد واسطة خير في مواراة البشاعة والتخلف؟ يجيب أحدهم: ذلك يليق بالأشياء. نحن الأشياء في هيئة بشر! لا روح في الأشياء المُهْمَلة!

***

كأن في الاطمئنان إلى التخلُّف، اطمئناناً لحال الموات، والخَدَر، والغيبوبة التي يبدو أنها مؤبّدة. فائض بشري يزاحِم... مُعطِّل ومُعطَّل؛ بل متعطّل يستمد هواءه وأسباب حياته من الآخرين.

حتى الهواء الذي يعمد إلى تلويثه وجعله غير صالح للاستعمال، يحتاج فيه إلى مرشّحات ووسائل تنقية من الآخر. لا يملك قدرة على المحافظة حتى على الهواء الذي يتنفسه. تخلّف صار يتنفس بالواسطة.

***

لا مخيّلة في بيئة كتلك. في بيئة التخلّف تموت المخيّلة. المخيّلة عنوان ومضمون واسع وعريض للحياة. الحياة بالقدرة على التأمل، والاكتشاف، والقراءة، وفوق هذا وذاك: الإضافة والتجاوز. لا حياة لمن لا مخيّلة له. هي الأجدر بالتعريف والتفريق بينك وبين بقية كائنات لله.

في البيئات المتخلّفة لن تجد قيمة للمخيلة – إن وجدت – ستكون موضوع استهزاء وتهكّم وتندّر.

***

في التخلُّف موت آخر. موت بهذا الانفصال عمّا يستجدّ ويتراكم ويتلاحق. كل فرْجة على ذلك هو بمثابة «فالَج جماعي» يصيب أمّة، وإن كانت تنظر وتراقب ما يستجدّ من حولها؛ لكنها أعجز من أن تسعى ولو بمقدار زحف إلى كل ذلك.

وفي التخلُّف عار أيضاً. عار في كونها عالة. أن تنتظر ما يرفّه حياتها البائسة، وأن يمنحها الشكل كي تواري خواء المضمون وفراغه.

عار بالاستماتة نحو القشْر. هي الرخاوة؛ أو قل الهشاشة. لا تحتاج إلى انقطاع كل ذلك كي تتعرى الرخاوة والهشاشة. يستدرجها التخلّف لتكون الشاهد والنموذج على الموت الذي يتجدّد ويكاد لا ينقطع!