كثيرون هم من كتبوا عن الحياة العلمية والأدبية في البحرين خلال القرون الماضية، وزخرت مؤلفاتهم التاريخية بالكثير من المشاهد الحية لطبيعة المناخ العلمي الذي كان سائداً في القرون السالفة. فقد زار البحرين الميرزا عبدالله الأفندي الأصفهاني في القرن السابع عشر الميلادي/ الحادي عشر الهجري، ودوّن رحلته في كتابه «الفوائد الطريفة». وفي القرن الثامن عشر الميلادي/ الثاني عشر الهجري، زارها الشيخ شرف الدين محمد مكي الجزيني وأقام بمنطقة البلاد القديم عامين، ودوّن عن علماء البلاد نصّاً تضمن الكثير من المعلومات التاريخية المنفردة. ولأن نص الجزيني الذي تركه مؤلفه بلا عنوان، لايزال مخطوطاً، فقد تصدى الشيخ إسماعيل الكلداري لتحقيقه وإخراجه، والكتاب ينتظر الطباعة.
أيضاً كتب السيد علي بن أحمد المدني الحسيني الشيرازي المدني (ت 1708م/ 1120 هـ) المعروف بابن معصوم كتابه القيّم «سلافة العصر في محاسن أهل كل مصر»، وللسيد علي هذا أكثر من آصرة ووشيجة تربطه بالبحرين، ليس لأنه أرّخ لشعرائها وأدبائها وأعلامها في كتابه السلافة؛ بل لأنه اختلط بعلماء البحرين (المهاجرين إلى إيران والهند)، وكاتبهم، وأخذ العلم على بعضهم ونشأت له مع البعض الآخر صداقات متينة ومودة غامرة، وهو ما يتضح بجلاء في «سلافة العصر» الذي طبع في مصر سنة 1906.
ذكر السيد المدني في هذا الكتاب، الأكابر من الفضلاء والنبلاء ومجيدي الشعراء والبلغاء من أعلام القرن السابع عشر الميلادي/ الحادي عشر الهجري، واشتمل كتابه على محاسن أهل العصر وأخبارهم وتقييد أشعارهم وشواردهم، حيث ترجم لأكثر من مئة شخصية كان نصيب شعراء البحرين منها إحدى عشرة شخصية.
لقد كتب هذا الأديب الموسوعي والرحالة المغامر عن السيد ماجد بن هاشم الحسيني البحراني (ت 1618م/ 1028 هـ) العالم الأديب والشاعر الذي تولى القضاء في شيراز، وذكر طرفاً من شعره. ومن بديع شعره في الغزل:
حسناء ساءت صنيعاً في مُتيمها
ياليتها شفعت حُسناً بإحسانِ
دنت إلينا وما أدنت مودتها
فما انتفاع امرئٍ بالباخل الدّاني
كما ترجم للسيد حسن بن أحمد الحسيني الغريفيّ (ت 1593م/ 1001 هـ)، وقال إنه «بحر علم تدفقت منه العلوم أنهاراً»، و»الفقه كان أشهر علومه»، وكان بالبحرين «إمامها». وهو من تلامذة الشيخ داود بن أبي شافيز (ت 1611م/ 1020 هـ) الذي أنشد حين بلغه وفاة تلميذه:
هلك القصرُ ياحمام فغني
طرباً منك في أعالي الغصونِ
ونتعرف في «السلافة» على السيد محمد بن عبدالله الحسيني بن شبانة البحراني الذي هاجر إلى الهند واجتمع بوالد صاحب السلافة الأمير أحمد بن معصوم قبل أن يقصد إيران ويستقر بمدينة أصفهان التي تولّى فيها منصب «شيخ الاسلام». وينقل ابن معصوم أن هذا السيد كان قد كاتبه سنة 1660م (1070 هـ)، ومدحه شعراً.
كذلك يرد ذكر السيد عبدالله بن السيد محمد بن شبانة (ابن السابق)، وهو شخصية أدبية مرموقة كانت لها علاقة وطيدة مع والد صاحب السلافة في الهند، ولكن حدث بينهما – كما يبدو من شعره - ما يستوجب الاعتذار وأورد له شعراً كثيراً في هذا الجانب.
كذلك نقف على شخصية السيد ناصر بن سليمان القاروني، الشاعر الأديب، إذ يروي صاحب السلافة عن شيخه العلامة جعفر بن كمال الدين البحراني أكثر شعر السيد ناصر، وينقل عنه بعض أحواله. ومما رواه أن السيد ناصر أنشد على قبر السيد حسين بن عبدالرؤوف البحراني :
الحكمُ والإمضاءُ والأمرُ
والحلمُ والإغضاءُ والصبرُ
فيك اجتمعن وان واحدةً
منها يحقّ بها لك الفخرُ
كما يتحدث السيد ابن معصوم عن السيد عبدالرضا بن عبدالصمد المولى البحراني وأخوه السيد أحمد، ويقول عن الأخير ولا يحضرني من شعره غير ما أنشدنيه له شيخنا العلامة جعفر بن جمال الدين البحراني.
كما يفرد للسيد علوي بن إسماعيل البحراني مساحة لترجمته، وقال عنه «فاضل في النسب والأدب»، ويبدو أن السيد علوي هذا قد هاجر إلى القطيف وربما كان مقيماً فيها، حيث يقول: «وهو اليوم شاعر هجر».
كذلك يترجم للسيد عبدالله بن السيد حسين البحراني. قال عنه «وقد صحبني سنيناً ومازلت بفراقه ضنيناً حتى فرق الدهر بيننا»، ومما نظمه السيد حسين لصاحبه ابن معصوم:
فخر العلا بحر المكارم لم تزل
بكمُ المعالي تستطيل عُلاءً
طوقتني طوق السرور فهاك من
جيد تطوق بالسرور ثناءً
ويرد اسم الفقيه الشيخ داود بن أبي شافيز المتكلم الجدلي والشخصية الأدبية المعروفة. ويختم ابن معصوم شخصيات أدباء البحرين بشخصية الشاعر العلم أبو البحر جعفر بن محمد الخطي (ت 1618م/ 1028 هـ)، الذي وُلد في القطيف وعاش أغلب حياته في البحرين وانتقل إلى ايران.
والذي يتضح من خلال ما أورده ابن معصوم في السلافة، أن البحرين كانت تعيش قبل أكثر من ثلاثة قرون ونصف نهضة أدبية كبرى، وكانت مدارسها تكتظ بالعلماء، وتلك صفحة مشرقة من تاريخ البلاد حقّ لنا أن نفخر بها ونعتز.
وضع ابن معصوم كتابه «سلافة العصر» بعد أن قرأ في مكة المكرمة كتاب «ريحانة الألبّا وزهرة الحياة» للعلامة شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي (ت 1658م/ 1068 هـ)، وأبدى إعجابه بالكتاب، لكنه قال إنه «أهمل ذكر جماعةٍ من أكابر الفضلاء وأماثل النبلاء، ومجيدي الشعراء ومفيدي البلغاء»، فعزم على استدراك النواقص بكتابٍ يذكر فيه ما فات صاحب الريحانة وما سبقه من مؤلفين، مع حرص على انتقاء الأشعار المفيدة التي لم يخالطها الغثّ والسمين.
ميزة كتاب السلافة، أنه ترجم لشخصيات لم يرد لها ذكر في كتب أخرى، وأورد أشعاراً لم ترد في الكتب السابقة عليه، مما يجعل كتابه منفرداً ومتميزاً، والميزة الأخرى أنه ترجم لشعراء وأعيان عصره من السنة والشيعة، وهو ما يجعل كتابه يتسم بالشمول والموضوعية، وقد اتسع أطلسه الأدبي إضافة «محاسن» أهل البحرين والعجم والعراق؛ محاسن أهل الحرمين والشام ونواحيها، واليمن، والمغرب.
وقد وظّف السيد المدني رصيده العلميّ وثقافته الموسوعية وخبرته الواسعة في علم الحديث والتراجم والرحلات، والشعر والبديع والنحو والصرف، وسكب كل ذلك في «سلافته» التي شرع في تأليفها سنة 1670م/ 1081 هـ، وفرغ منها سنة 1670م/ 1082 هـ، سالكاً فيها مسلك الثعالبي (ت 1066م/ 451 هـ) في «يتيمة الدهر»، والباخرزي أبو الحسن علي ابن ابي الطيب (ت 1075م/ 467 هـ) في «دمية القصر».
قدم ابن معصوم في «السلافة» لمحة عن من ترجم لهم، فعرّف بهم من حيث النسب، وتاريخ الولادة والوفاة، ومكان الدفن، والمرتبة العلمية، والمكانة الاجتماعية، والمذهب الديني، والمؤلفات إن وجدت، وأورد بعضاً من الشعر. ويزخر الكتاب بالمحسنات البديعية التي أغرق بها كتابه انسجاماً مع ما كان سائداً في عصره من أساليب الكتابة النثرية.
يبقى أن نشير إلى حاجة هذا الأثر النفيس إلى من يعتني به ويحقّقه ويخرجه الإخراج اللائق، وتعكف الباحثة أنيسة المنصور حالياً على هذه المهمة اعتماداً على سبع نسخ خطية، ونترقب إلى تلك اللحظة التي نرى فيها هذا العمل بين أيدي القراء وعشاق المعرفة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4252 - الإثنين 28 أبريل 2014م الموافق 28 جمادى الآخرة 1435هـ
احسنت
احسنت على هذا المقال الرائع ،، ونتمنى المزيد
هذه أوال موطن العلم والعلماء
أولئك آبائي فجئني بمثلهم .. اذا جمعتنا يا(جرير) المجامع
نعم هذا تاريخنا يحكي عن اصالتنا وجذورنا في هذه الارض .. فأين تاريخهم ؟