ما حدث في تركيا من نجاح للانتخابات البلدية الأخيرة، وتحقيق حزب العدالة والتنمية بزعامة الطيب رجب أردوغان لنجاح باهر فيها زاد على انتخابات 2009 بحدود 7 في المئة (38,8 % العام 2009 مقارنة بـ 46 % العام 2014)، على عكس توقعات كثير من معارضيه، وكثير من الساسة ومراكز القرار ودول الجوار العربي والإسلامي، الذين اعتقدوا جميعاً بأن طائر «الفينيق» التركي الأردوغاني سيحط رحاله، وسيهوي على صخرة معارضيه متأثراً بجروحه النازفة.
أقول: ما جرى هناك في تركيا، يحسب بالدرجة الأولى كنجاح للشعب التركي عموماً، وليس فقط لرئيس الوزراء أردوغان، وإن كان له دور بارز كشخصية سياسية رصينة قادت الحزب بنجاح، وقادت تركيا من نهضة إلى أخرى.. لكن المشكلة هي عندنا نحن في العالم العربي والإسلامي، حيث أننا لا نزال نشخصن الأمور، وننظر -كما جرت العادة- إلى الأشياء والأمور بنفس النظرة التقليدية القائمة على التبسيط الشديد، المعبأ والمشحون بألوان شتى من العواطف والرغبويات البعيدة عن شيء اسمه عقل وتوازن وتخطيط وتأمل وتحليل ونقد.
وإذا كنا نلوم الشعوب، فالأولى أن نوجه اللوم أكثر إلى الحكام والأنظمة، ومن نسميهم خطأً بصناع القرار العربي (مع أن قراراتهم تصنع في عواصم القرار المعروفة) ممن اعتقدوا ويعتقدون بأن تركيا هي أردوغان، وأن أردوغان هو تركيا. وهذا برأيي، تقزيم للأمور وضيق في الأفق، بقطع النظر عن طبيعتها ومعناها وحجمها ودورها، لأن تركيا كدولةٍ جارةٍ لنا نحن العرب، وتجمعنا معها روابط كثيرة مشتركة دينية وحضارية ومجتمعية وتاريخية، لا يجب أن نختزلها بشخص أو بحزب أو تيار أو جماعة، حتى مع النجاح الواسع والازدهار الواضح الذي حققه هذا التيار لبلده ومجتمعه. هذه كلها متغيرات (الأشخاص والتيارات والحكومات)، والدول هي التي تبقى لأنها ثوابت في الأصل السياسي المجتمعي، وبالتالي علينا أن ننظر للحدث التركي من زاوية نهضة هذه الدولة، كناس ومجتمع وتاريخ وثروات ودور ونجاحات تنموية واقتصادية وسياسية.
إن تركيا اليوم هي الشعب وديناميته، وإمكانياته وقدراته التي جعلت البلد يتقدم، ويقفز درجات ومراتب كثيرة في سلم التنمية البشرية والإنسانية، حتى أصبحت دولةً لا أحد يشكّ بتطوّرها على هذا السلم محققةً الترتيب السادس عشر عالمياً برقم تنموي يزيد على 165 مليار دولار صادرات سنوياً. وبمتوسط دخل فردي سنوي يصل إلى حوالي عشرة آلاف دولار سنوياً، وهذه قفزة اقتصادية مبنية على آلية حكم ديمقراطي مدني حر نامٍ ومتطور، على رغم كثير من السلبيات العالقة به حتى الآن. وهذا كله يأتي طبعاً نتيجة حيوية الشعب، وإصراره على تحقيق التغيير الإيجابي نحو المستقبل خدمةً للفرد والمجتمع التركي ككل، وليس خدمة لشخص أو حزب بذاته.
وأما عن ردود أفعال العرب حول ذلك، فهي للأسف تدور في مستويين أو مدارين حديين، لا منطقة وسطى بينهما إلا فيما ندر، فإما غرام وهيام ينسيهم الأخطاء والعلل، وإما كراهية وحقد وانتقام ينسيهم الإيجابيات والنجاحات. هنا العلة عندنا نحن العرب، نفتخر ونعتز بأفعال غيرنا، أو نكيل لهم الاتهامات والسباب والشتائم، أما أنفسنا وواقعنا فلا نعطيهما أي اهتمام جدي وحقيقي. فنحن لانزال أفراداً ومجتمعات وأمة، نلقي التهم على الآخر، وتقديم الأعذار والتبريرات المسبقة لأنفسنا ضد غيرنا، وبهذا نحن بعيدون كل البعد عن تقبل أية حالة من حالات النقد والمساءلة والمراجعة لكثير من حساباتنا وخياراتنا والتزاماتنا السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية. فإذا ما فزنا أو ربحنا في جولة فكر أو ساحة سياسة أو ميدان حرب، فلأننا أبطال مخلدون منذ الأزل، ولا مثيل لنا في التاريخ كله، وأما إذا ما خسرنا في جولة أو ساحة، فالآخر هو المتآمر، وهو من يتحمل كامل المسئولية عن عجزنا، لأنه تآمر ضدنا، ونصَب الأفخاخ لنا، ووضع العراقيل في طريقنا، ونصب الحواجز لإسقاطنا وإفشالنا عن سابق قصد وتصور.
هذه الحالة النفسية والعملية التي ننام بهناء على سريرها الدافئ، لابد من تجاوزها وتخطيها لكي لا نبقى مجرد أصحاب نظريات حالمة بغد جميل أفضل، لأن أجمل النظريات وأحسنها وأروعها وأبدعها لا تساوي شيئاً، ولا قيمة واقعية لها إلا إذا تحوّلت إلى واقع وفعل عملي ملموس ينعكس على الأرض لصالح سعادة الإنسان، وازدهاره ورفاهيته.
وتركيا أو باقي الشعوب الأرضية المتطورة ليست أفضل منا لا بالإمكانات ولا بالعقول ولا بالمحفزات، لكن هم عملوا ونحن لم نعمل، بقينا نحلم، ونلف وندور حول نظريات «طوباوية» وأيديولوجيات «طوطمية»، غرقنا فيها في الحلم وفي الحقيقة... ولم نخرج بعد إلى عالم اليقظة والفعل.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 4250 - السبت 26 أبريل 2014م الموافق 26 جمادى الآخرة 1435هـ