في سيحة نخيل بقرية الحجر نشأ إبراهيم عياد. وهو إبراهيم الحجري، وإبراهيم البطل أيضاً. الأول قبل أن يفاجئ والده النخلاوي بسؤاله الذي غادر حياة يرسمها الآباء للأبناء، والثاني نسبة للقرية والذي ضللني حين بحثي عنه، والثالث كما ورد في مدونات الدنماركيين بعد إنقاذه طفلاً من موت محقق في برج قلعة البحرين. تعددت النسبة والنعوت إليه وتجاوز هو نعت العامل «الكولي» إلى المنقب المكتشف المحلل لما تحت الأرض. وهو «المتحد» مع نفسه - كما يصف نفسه بكلماته - المنعزل، المستقل، المعتدّ. يا إبراهيم لماذا العزلة؟ فقال: «مالي خلقهم».
فلما بلغ الخامسة عشر وقف بعيداً عن والده بما يمنع بطشه أو يخفف منه، وسأله: إلى متى سنفعل وننجز كلّ ذلك في سيحة نخيل ليست لنا؟ نزرع، ونلتفت، ونهتم، ونروي، ونباري النخل، رجالاً ونساء وأطفالاً مسخرين، قلقين، خائفين أن تنقص قلّة تمر واحدة عمّا اتفق عليه في تضمّن الأرض سنوياً؟ رفض والده السؤال ولامه - غاضباً - على نيته: أنتم لا تعملون. كان السؤال آخر الكلام بينهما. رمى إبراهيم الكرّ والمنجل على الأرض وقال: من اليوم، اذهبْ أنت وشيوخك وأنا «بشيل» عمري.
استقلّ إبراهيم عياد في العمل والمكان. بدأ بحمل البضائع، صار شرطياً باللباس الهندي، عاد لحمل البضائع من جديد ثمّ كولياً مع البناء الحاج أحمد الباسجة. وفي يوم جلس على مرتفع في قلعة البحرين ينظر إلى نشاط البعثة الدنمركية. رأى امرأة أجنبية كلما تحركت في فناء القلعة تحرك خلفها مجموعة العمال. ما الذي يحدث؟ يقول عياد «نزلت نحو المرأة وتدعى «كارن». اقتربت منها فوجدتها تبعد العمال كي أصل إليها، وسألتني:
قالت: speak English.
رديت: No I can’t speak English.
فضحكت وقالت: تعال صباح غد للعمل معنا.
لكن إبراهيم جاء بعد سبعة أيام وبدأ العمل في البعثة تحت قيادة المنقبة الدنماركية «ملينا». يومها لم يكن هناك من الآثاريات الدنمركيات غير ثلاث. توثّقت علاقة عياد بملينا، وصار العامل الأساسي في مجموعتها، وهو الوسيط بينها وبين بقية العمال. وعلى رغم محاولة البعثة في تنظيم العمل قدر الإمكان إلاّ أن حفظ ما يجدونه تحت الأرض لم يكن منظماً. يشير عياد إلى غياب الرقيب على المكان التي يفترض أن تستقر فيه الآثار. وإنّها كانت ترسل إلى الدنمارك ولا ترجع. يقول عياد «استمر الوضع كذلك حتى وجدنا نقوداً من زمن الإسكندر الأكبر وحدثت مشادات لفظية بين الدنمركيين وبين مديرية التربية المسئولة عن الآثار آنذاك. ومنذ ذلك الحدث أظنّ أنّ الآثار لم تكن تغادر البلاد».
أظهر إبراهيم البطل صفات جعلته ذا مكانة لدى الدنمركيين فهو لا يكتفي بنبش التراب مرّة واحدة كما تفعل مجموعات العمال في قلعة البحرين. فكثيراً ما عاد للرمل المنبوش والمهمل جانباً ليقوم بنبشه وغربلته مرة أخرى ليجمع صغار الخرز التركوازي. يستمتع بذلك واصفاً هذه المهنة بأفضل ما عمل فيه في حياته. وإبراهيم أوّل مَنْ يحفر في المكان الجديد محدداً للعمال مكان الحرف ومساحته. وقد يستدعى من مجموعة أخرى لفلق صخرة. لكن الحدث البطولي الذي أظهره عندما صعد طفل لعالم الآثار الدنمركي جيفري بيبي أعلى البرج الشمال غربي الخطر في القلعة. أنزل إبراهيم الطفل ذي التسع سنوات بخفّة المغامر المتمكّن. صنيع جعل بيبي ينعته بالبطل فيما نعت إبراهيم «فيبك» زوجة بيبي بالحنونة جداً والواضحة والجادة. صار بيبي وزوجته لا يفوتان زيارته في بيته كلما مرّا بالبحرين.
تعرّض عيّاد لما أشارت إليه الأنثربولوجية هني هانس (Henny Hansen) في كتابها «بحث في قرية شيعية في البحرين» إلى شيء من الصعوبات في أساليب الاتصال في قرية مثل «سار» بين «المجتمع الاستاتيكي المغلق فيها والمعتمد على ذاته، وبين العالم الغربي الفاعل». فما الذي حدث؟ يقول عيّاد «سألتني ملينا مرّة: لماذا لا يشرب العمال مما نشرب؟ لماذا يقومون بالتخلص منه؟! أجبتها: ربّما لم يكن نظيفاً. فقالت: لا... كان نظيفاً جداً. قل شيئاً آخر. فقلت: هم مسلمون وأنت غير مسلمة ولديهم ما يمنعهم من الشرب في كأس غير المسلم. المسألة هي دينية بحتة. لا تستطيعين تغيير ذلك وما يفعلونه ليس استنقاصاً من واحد فيكم. لكن لا تشربين من مائهم نهائياً. ما رأيك أشتري حافظة للماء نشرب منها معاً وقت العمل وإن ذهبنا للجنة معاً! فضحكت ووافقت». وقد أشرت في الحلقة الأولى من «تحت الأرض...» إلى أنّ بيتر غلوب قد نقض ذلك بتدوين مشاهد عديدة لمشاركة الدنمركيين العمال طعامهم وشرابهم في مواقع العمل أو في بيوتهم وفي مناسباتهم الدينية في أكثر من قرية. وهني هانس نفسها عندما تعرضت لموقف نقيض لذلك وصفتها بأنّها «معاملة استثنائية»!
كان عيّاد السبب في الالتفات لآثار قرية الحجر عندما وجد جرّة نحاسية في تلة يحفرها عمال لبناء بيت. أخذها لجيفري بيبي فحضر الموقع وسجّل ضمن مواقع أثرية ينبغي التنقيب فيها. شارك عياد لاحقاً في التنقيب في هذا الموقع، وعزا وجود قبر به رؤوس كثيرة وهياكل عظمية غير مكتملة وعظام مكسرة إلى حدوث مذبحة في هذا المكان. يقول «وجدنا هيكل لفتاة جالسة وفوقها حجرة كبيرة بدت لي أنها قتلت بهذه الحجرة نفسها».
توقّف عياد عن العمل في الآثار بعد سنوات من رحيل البعثة الدنماركية وبالتحديد في العام 1977 وبدأ عمله الجديد في وزارة الصحة.
«عند حلول الظلام يقوم عمالنا العرب المسلمون الطيبون، بالتوقف لأداء الصلاة. ويؤمهم الأكثر تقوى في صلاتهم باتجاه مكة سلمان بن يوسف وهو أحد عمالنا الأقل حيوية ولكنّه رجل كبير وجليل وهو ملا ورجل دين في قريته». بيتر غلوب «البعثات الدنمركية في دلمون القديمة»، ترجمة محمد البندر، وزارة الإعلام، كتاب البحرين الثقافية، 2003.
«باختصار، بما أنني كافرة ونجسة فأنا شخص غير مرغوب فيه». هني هانسن «Investigations in a Shia Village in Bahrain»، المتحف الدنماركي الوطني، 1967.
العدد 4249 - الجمعة 25 أبريل 2014م الموافق 25 جمادى الآخرة 1435هـ
الله يحفظه ابوخليل
اله يحفظك ابوخليل