من الرؤى الجميلة والعميقة في شأن العلاقة بين الشباب و«العولمة» أو «الكوكبة»، ما قدمه الباحث مصطفى حجازي، من رؤية جديرة بالتحاور في الملتقيات الشبابية، حيث يؤكد بأن الحكمة القائلة بأن «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم هم أبناء الحياة، إنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، هي حكمة تنطبق على عصرنا الراهن أكثر من كل العصور الماضية، واثقاً بأن العولمة هي حضارة الشباب بدءاً من استهلاك منتجاتها والانخراط في توجهاتها وانتهاءً بقيادة عملياتها وأنشطتها. ذلك أن العولمة ترتكز على حماسة الشباب وحيويتهم ومغامراتهم، أما خبرة الكبار وحكمة الشيوخ فرغم ما تحظى به من احترام لم تعد المرجع الرئيسي.
ينطلق حجازي كعادته دائماً من تشخيص لواقع راهن عبر رؤية استشرافية للمستقبل، لذلك فإنه يبحث دائماً عن متغيرات موضوعية محلية أو خارجية، تدفع الواقع نحو الأمام، ومن هذا المنطلق يركز في تحليله عن الشباب وعلاقتهم بالعولمة (الكوكبة) من حيث هي تقنية وقيم وسلوكيات ومن ثم موقف، ومدى بروز التعارضات والأضداد مع ذويهم. لذا يرى حجازي أن شباب اليوم تشدهم العولمة إلى فرصها وطموحاتها وآفاقها المذهلة والمدهشة والواعدة، والمثيرة للحيوية، أما الكبار (المرجعيات: الأسرة والدولة ورجال الدين...الخ) فتجهد للحفاظ على أبنائها الشباب وارتباطهم بها واستمرارية رعايتها لهم. وتجهد من جانب آخر على أن توطّن ذاتها للقبول بانطلاقة الشباب في عالم الكوكبة.
تحدي مرجعية الدولة ورجال الدين
لنتأمل الفقرة المشار إليها أعلاه لنكتشف حجم التغيرات في العلاقة بين الأسرة والأبناء، تلك التغيرات التي أخذت تحول العلاقة من علاقة عمودية إلى علاقة أفقية بين الطرفين، فالاتجاه المجتمعي يسير صوب تعود الأسرة لذاتها، لمتطلبات أبنائها المنطلقين نحو آفاق الكوكبة. فبدلاً من أن يحاول الشاب التحرر والتمرد تحاول الأسرة التعود لاحتياجاتهم ومجاراة تحررهم دون أن تترك لهم الحرية الكاملة في ذلك.
إن أهم نتائج هذه التحولات التي تخلقها العولمة، هو فقدان الأسرة كمرجعية تلقائية، بل إن الدولة في طريقها أن تفقد مرجعيتها الجبرية، وكذا الحال ستعمل العولمة على أن يفقد رجال الدين غير المستوعبين لضرورة المرونة واستيعاب متطلبات المستقبل مرجعياتهم للشباب.
إن أهم آليات العولمة التي تتحدى هذه المرجعيات هي شبكة الإنترنت التي خلقت عالماً إلكترونياً يتجاوز العالم الواقعي الطبيعي، عالم يمكن لأي راغب أن يكون مواطناً كونياً. وفي هذا المقام لباحثنا مصطفى حجازي رؤية عميقة، حيث يعتقد بأن هذه المواطنية الكونية الجديدة هي بصدد تنميط الأذواق والتفضيلات والتوجهات من خلال مفاهيمها ولغتها ومصطلحاتها وإشاراتها ورموزها، ما يولّد نظرةً جديدةً إلى الوجود في العالم، حسب حجازي، وإلى النظرة إلى العالم والذات.
إن هذا العالم الإلكتروني التواصلي يكاد يلغي المدنية كمرجعية ومجال حيوي للتحرك والنشاط وقضاء الحاجات، فالعولمة هنا نسفت الديمومة ومرجعية التاريخ والماضي، وهي تدير ظهرها إلى الماضي والتاريخ وتتوجه بإصرار قطعي نحو المستقبل، الأمر الذي يعني أن أكبر الامتيازات الذي لدى الكبار وهو خبرتهم وثروتهم لمرجعية التاريخ والماضي والذي يحاولون فرضها على الشباب، قد أخذت تسحبه العولمة من تحت أقدامهم.
نسف الزمان والهوية
بيد أن الأخطر من كل هذا وذاك، هو قدرة العولمة على نسف الزمان والمكان التقليديين، وبالتالي قدرتها على نسف الهوية بالمعنى التراثي، كي تحلّ محلها هوية الإنجاز المستقبلي. وفي اعتقاد حجازي إن هذا يعني إحلال الفردية المنجزة محل الفردية المنتمية، وهذا يعني كمحصلة أن من يحاول أن يمارس مع الشباب الفعل والتأثير التقليدي (الثوري اليساري أو التراثي الديني) فهو يحرث في بحر ويناطح السماء. ذلك أن العولمة قد أخذت تحرر الشباب من قيود الماضي، كل أنواع الماضي، التراثي بأفكاره ومتطلباته، واليساري التقليدي بمؤسساته (الشبابية!) التقليدية المؤدلجة. ورغم المحاولات المضنية في هذا المضمار إلا إنها في اعتقادي محاولات لن تثمر سوى المزيد من إضاعة الجهود والطاقات والوقت، ذلك أن العولمة بقيمها وسلوكياتها ومتطلباتها سوف تحرر الشباب من كل هذه القيود وتستفرد بالشباب لتضعهم أمام تحدي بناء كيانهم المستقبلي مهنياً ونفسياً واجتماعياً.
ومن جانب آخر، وهو الجانب المهم والجديد والمطلوب تتبع مساراته، فإن كل هذه المتغيرات قد أدت إلى تغيير العلاقة بين الكبار والشباب، من علاقة كانت سائدة- ومازالت بقاياها موجودة- تتمثل بالعلاقة الفوقية العمودية إلى علاقة أفقية، أي من علاقة مرجعية ووصاية إلى علاقة تكافؤ وشراكة وتشاور وتحاور. وحسب رؤية حجازي، فإن العولمة أدخلتنا في حالة من الديمقراطية الجديدة، فبعد أن كان الوالدان هما اللذين يرعيان الأبناء في تجاه تواصلي أحادي (من فوق إلى تحت) أصبحت الرعاية متبادلة (في اتجاهين وبشكل أفقي) ولو أن كل طرف يرعى الآخر في جانب مختلف.
والمحصلة النهائية هي أن هناك تحولاً اجتماعياً عميقاً يجري بهدوء ولكن بشكل مؤكد، في علاقة الكبار بالشباب، وان إقحام عامل جديد كالعولمة في هذه العلاقة قد أدى إلى إضعاف دلالة الأسئلة ذات الأحكام المسبقة، مثل لماذا وصاية الكبار على الشباب؟ ولماذا تهيمن مرجعية الكبير على الشاب؟ الأمر الذي يفرض علينا إعادة الأسئلة، من لماذا إلى هل؟ أي من أسئلة حدية إلى أسئلة مفتوحة على فضاءات واحتمالات عديدة.
بيد أن هناك ظاهرة مازالت تعرقل صحة مقولات الباحثين في الشأن الشبابي الذين يراهنون على العولمة باعتبارها عاملاً ثورياً يقلب الموازين بين الكبار والشباب، والتي تتمثل في مدى تأثير قيم الكوكبة المنفتحة والمتحررة على جميع شرائح الشباب دون استثناء، أو مدى قدرة الموروث والتراث والمرجعيات التقليدية التي لها تأثيرها الإيديولوجي والعقائدي على شريحةٍ من الشباب في تقليم أظافر الكوكبة أو ترويضها لصالح المرجعيات، خصوصاً أن بعض التقديرات توضح أن 20 في المئة فقط من الشباب وهم النخبة الذين يتاح لهم فرص الانطلاق والاستفادة من انجازات العولمة، وبالتالي فإن الغالبية العظمى منهم مايزالون مهمشين، ورغم إن المؤشرات الأولية غير المعتمدة على دراسات ميدانية أو قاعدة معلومات حديثة وصحيحة قد تكشف أن خصوصية مجتمعات الخليج من حيث انفتاحها على عالم العولمة وتقنياتها، قد فتحت المجال حتى لهؤلاء الشباب المهمّشين للانخراط في شبكة الانترنت والاستفادة منها. وأعتقد بأن دراسة هذه الظاهرة بحاجة إلى إطار عام نظري مختلف وبيانات جديدة حتى نتمكن من استقراء الواقع واستخراج النتائج.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 4249 - الجمعة 25 أبريل 2014م الموافق 25 جمادى الآخرة 1435هـ
وأين العولمة من شبابنا ؟!
غريب وانت تؤمن بهذه المقولة للمفكر ، أين العولمة من شبابنا الغارقين في اتباع المرجعيات الدينية ، هل يعني ذلك بأن شبابنا متخلفين عن العولمة وشباب العالم في ظل هذا التواصل عبر شبكات التواصل ولم تصل اليهم هذه المفاهيم بعد ، بل الأغرب ان شباب من المنتمين الى التيارات الديمقراطية والتقدمية ومن اليسار مثل جمعيتكم أيضاً من الغارقين في اتباع المرجعيات الدينية ، لم تمسكهم هذه التحولات المعولمة!!