السَّديمُ السوري، لم يعد ضباباً رقيقاً. فقد أضَبَّت سماء سورية إلى الحد الذي جعل من كل شيء مبهماً وهشاً وغير عاكس للوصف. كمراقبين، بَدَت لنا الأشياء متضخمةً أكثر من اللازم، متفسخةً أكثر من اللازم. وعندما تتراءى الأشياء بهكذا حال، فإن ذلك يعني أنها تجاوزت الموت، إلى التحجُّر والأفول بعد أن فقدت الدالة على أن يُعرَف أصلها.
لقد علمتنا التجارب، أن الثورات، عادةً ما تُنتِج تحالفات رجراجة، ومحيطاً اجتماعياً متحوِّلاً، وهو أمر مقبول ومعتاد، لكن الذي جرى في سورية ليس صوراً فكرية متبدلة، ولا أوضاعاً اجتماعية متطورة. بل هي باختصار شكل من أشكال العَبَث بكل شيء. بالسياسة والاقتصاد والثقافة والدين، بل وحتى بالتاريخ، الذي بات تأويله معوجاً.
كانت الحدود المقبولة في سورية هي ما بعد التضحية ودون الاقتتال. كان التأييد والاصطفاف هو أن تقبل بمعتقلين في السجون لا بمهجّرين في الفيافي. أن تقبل بقبضة يد مرفوعة في معركة الجماهير لا بيد ترفَع السلاح في بُرَك الدم. أن تقبل بقلبٍ وطني لا بقلبٍ يُنزَع من الصدر. أن تقبل بإعلام سياسي معارض لا بإعلام مُبتَذَل وبراية طائفية.
كانت تلك هي الحدود، وكان الصدق معها قوياً. فمَنْ وقف مع الشعب السوري في مطالبه كان يؤمن بذلك المقدار، وبذلك الحيِّز. وهي مقادير مهما وصل فيها الظلم تبقى معقولة، كونها الضريبة المعتادة للنضال السياسي. لكن الذي جرى ليس ذلك، بل هو سَدٌّ وقد هُدَّ من وسطه، لتغمر المياه كل مكان، وبالتالي لا قدرة لأحد على التحمل والبقاء.
قبل أيام، تحدّثت مديرة مدرسة البطريركية الكاثوليكية في دمشق لإذاعة الفاتيكان قائلةً (وكانت شاهدة لما جرى في مهد الأرامية الشرقية): «جاء المتطرفون الإسلاميون وصلبوا شابين في معلولا لأنهم لم يدخلا في الإسلام»! ثم أضافت: «لقد فصلوا رؤوساً وحوَّلوها إلى كرات يلهون بها»! هذا السلوك هو خارج حدود المنطق بسنوات ضوئية.
لقد أصبحت الكلفة أكثر من قيمة السلعة الأصلية بأوزان لا قِبَلَ لأحدٍ على حملها. الأقليات لا تخشى من شيء إلاَّ الخشية على وجودها. وعندما يصل الأمر إلى أن أكون أو لا أكون، فإن ذلك يعني أن الحياة كلها أصبحت على كتفٍ واحد. بمعنى، لا قيمة لأي شيء يُذكر، مادامت الحياة هي بذات القيمة التي يُرَى فيها الموت. هذا هو المشهد بالتحديد.
الأقليات في سورية، لا تريد أن تحصل على أكثر من أن تكون موجودة. وجودٌ ليس فيه امتياز، ولا حظوة، ولا أن يتحوّلوا إلى أبناء ذوات، هم يريدون أن يشعروا بأن كيانهم غير مهدد. هذا المقدار المتدني، لم تستطع المعارضة السورية المسلحة، أن توفره لهم (وهو حد معقول جداً ومتواضع)، والسبب، أن التطرف الديني والسياسي، سَرَى في جسد تلك المعارضة حتى وصل إلى نواة نخاعها، وبالتالي لا فكاك منه. ولا أمر لمن لا يطاع.
إن هذه الهمجية في السلوك، والمُدَّعى زوراً أنه سلوك إسلامي، تمثل أكبر تهديد لسورية اليوم. لنا أن نتخيل: إذا كانت دول المنطقة كتركيا والأردن والعراق ودول الخليج العربية ودول آسيا الوسطى شمالاً وروسيا، بل وحتى أوروبا، باتت تشعر بأنها مُهدَّدة في أمنها القومي بسبب أولئك المقاتلين المتطرفين، فما بالك بالوطن السوري نفسه الذي تتواجد فيه تلك الجائحة من التطرف، بدءًا من الشمال وحتى الجنوب.
خلال مؤتمر الأمن الوطني والأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون الذي نظمه مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة قبل أيام، تحدث الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية عبد الله بشارة، بكلام مهم للغاية في هذا الجانب. بشارة قال: «إن تنظيم القاعدة وداعش هي منظمات تمارس وحشية عابرة للحدود لم تعتد عليها المنطقة، بمحاربين من هويات غامضة وصلت لأراضي الشام واليمن والعراق وتكاثرت... وهم مدعومون بتمويلات خارجية، وترافق أعمالهم ممارسة همجية، تصل إلى قطع الرؤوس وتقطيع الأجساد». والحقيقة أن مسألة الهويات الغامضة هي الأهم فيما ذكره بشارة.
فلا المجتمع السوري (ولا المجتمع العراقي ولا اليمني ولا غيره من المجتمعات العربية) هو ذو جنوح دموي نحو التطرف الديني بهذه الطريقة البشعة والغريبة. وبالتالي، فإن ولوج هويات من القوقاز أو هويات من أوروبا أو جنوب القارة الأم وخلافها، يعني إنتاجاً لمشاعر متوترة، وولادة انتماء مشطور، غير قادر على تحديد مكانه الحقيقي. هذا هو الأمر الخطير.
وقد وجدنا في التاريخ القريب، أن الجيوش النظامية المتماسكة، التي احتضنتها دول علمانية، كالجيش الألماني، قد واجه صعوبات جمَّة فيما يتعلق بقضايا الانضباط والسلوك المتوازن عندما استعان بالجنود غير الألمان في غزو الاتحاد السوفياتي، حين جمعهم من مستعمراته، ومن الدول المتهاوية تحت جنازير دباباته. هذا الأمر تكرّر أيضاً في صراعات أميركا الجنوبية خلال مرحلة الصراع على بناء الدول.
نحن اليوم أمام مذبحةٍ مفتوحةٍ في الأرض السورية. مذبحة ليست بين خصمين (نظام/ معارضة) بل هي مذبحة للحياة، ومذبحة للتاريخ، ومذبحة للمنطق والسياسة والاقتصاد، تقودها جحافل من الهَمَج المتطرفين، ممن يحملون راية الدِّين ادعاءً. وكما قال الخطيب الروماني شيشرون: «القتلة لا يبحثون عن فلسفة، بل يبحثون عن أجورهم»... وهو ما يحدث بالتحديد في سورية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4249 - الجمعة 25 أبريل 2014م الموافق 25 جمادى الآخرة 1435هـ
لا تنسى يا أخي الكريم
لا تنسى وحشية نظام البعث السوري ( وريث صدام حسين في الوحشية ) أيضا ، هذا النظام الذي لم يتحمل حتى أغنية تنشد للحرية من فم المغني ابراهيم القاشوق أنشدها في ساحة العاصي بمدينة حماة ، فقام بقتله ( وانتزاع حنجرته ) !! . . . لا فرق بين من ينتزع حنجرة شخص حقدا على أغنية للحرية ، و بين من ينتزع قلبا حقدا على انتماء سياسي ، كلاهما يصدق عليه القول الذي ذكرته : (( القتلة لا يبحثون عن فلسفة . . . . )) . . . . و شكرا على الموضوع الجميل المحزن ، مع التحية . .
هؤلاء قتلوا رفيقا لهم لانه تفوه بكلمة
هؤلاء قتلوا رفيقا لهم لانه تفوه بكلمة حسين ظنا منهم انه مسلم شيعي فكيف يتعاملون مع المسيحيين أو غيرهم
ومن هو المفرخ المسكوت عنه
التعصب والحمق الطائف منبته وتمويله وفكره واحد وهو معروف لكنه مغمض العين عنه حاليا ولوقت لن يطول فهل يعي اصحابه خطورته على كيانهم مع اتخادهم إجراءات ضد محاربة الإرهاب لنرى النفاق الغربي ومواقفه