العدد 2461 - الثلثاء 02 يونيو 2009م الموافق 08 جمادى الآخرة 1430هـ

بكاء... ورحمة

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

في ثقافتنا خلل مؤلم يتعلق بالتعامل مع البكاء.

بكاء الطفل ازعاج يتم نهيه عن التمادي فيه، وبكاء المرأة دموع تماسيح يجب ألا يستجيب لها الرجل أو يرق قلبه، وبكاء الرجال شين وضعف لذا فهم لا يبكون أو يتوارون بدموعهم بعيدا عن العيون حتى لا يتم الطعن في قوتهم وذكورتهم.

وهذا في الحقيقة أمر مدهش، فالرسول عليه صلوات الله لم ينه طفلا عن البكاء، بل أمر الكبار بأن يخففوا في صلاتهم في المسجد احتراما لمشاعر طبيعية لدى الرضيع أو الطفل.

وقد بكى رسول الله ولم يخجل من دموعه في مواقف كثيرة، بكى عند وفاة خديجة، وبكى عند وفاة إبراهيم، وكان يبكي حين يذكر أمه، وبكى من قسوة أهل الطائف، وبكى شفقة على قومه، وبكى خشية من ربه.

ما الذي يمنع أن يبكي الرجال!

رأيت دموع والدي... كان يبكي حين يذكر أمه التي توفيت قبل مولدي، فقد كانت تقسو عليه حتى يشب رجلا لكنها كانت تمزج القسوة بفيض من العاطفة فيعرف أنها تخاف عليه، وكان يروي نوادره حين عاد مرة من نزهة مع أصحابه متأخرا فأغلقت الباب في وجهه وطلبت منه أن يبيت في الشارع، فلما استدار ليمضي فتحت الباب وشدت قميصه وضربته، ثم أعدت له العشاء وخاصمته حتى نهاية الأسبوع... كان يضحك وهو يحكي قصصا عنها... ثم يبكي.

ورأيته يبكي يوم تخرجي من الجامعة بتفوق، ويوم زواجي، ويوم وفاة أخيه الأكبر، وحين مات أبي بكيت أنا حزنا عليه كما لم أبكِ في حياتي.

الرجل الذي يبكي رجل قادر على التعبير عن إنسانيته، وقادر على أن يحنو، وأن يغضب، وأن يعفو. أما الذي قست قلوبهم فلا يبكون فهم في خطر، إذ يفقدون إنسانيتهم مع كل فرصة ضائعة... للبكاء.

رأيت بعض الرجال يبكون عجزا، حين لا يقدرون على شيء في مواجهة الفقر، والمرض، والموت.

ورأيت بعض الرجال يبكون شوقا لامرأة، أو من قسوة كيد امرأة.

وأذكر صديقا ظل على وفاءه لامرأة أحبها وفرقت بينهما الأيام عشرين سنة، وكان إذا ذكرها بكى، فكتبت له هذا النثر:

لا تبك...

دمعة شجن تلك

أم لؤلؤة في عينك

احفظها ولا تبك

واسق بها بستان

الأيام القادمة

المنشودة

...

احفظها ولا تبك

ففي الأحداق مكانز حزن

وصورة أزل

رسمتها العينان

لأمكنة موعودة

...

انظم دمعك أحرف شعر

أو صب القطرات على الأوان

لترسم لوحة أحلامك

أو أطلق بدلا من دمعك

أنشودة

...

أيام الحزن ستمضي

وستسطع شمسك

وتضيء مساحات العتمة

ويغادر هذا القلب شروده

...

وستزهر كل أمانيك

ويعود لروحك كل الألق

وفؤادك سيقر ويسكن

وسيسترجع بعد الغربة

دفء وجوده...

لا تبك...

أهديتها له حين وجدته مكتئبا يعيش في وحدة شعورية قاتلة، فبكى! ثم دعوت له فرزقه الله بعد طول الزمان... زوجة صالحة ودودة.

وليس الإنسان وحده من يبكي... تبكي السموات والأرض، وقد ذكر القرآن أنهما لا تبكيان على الكافر، وبكى جذع نخلة كان يتخذه الرسول منبرا فلما غادره سمع الناس أنينه.

البكاء رحمة، يخرج ألم النفس من بين الجوانح، ويغسل الروح، ويذهب بالطاقة السلبية فتهدأ النفس.

كان رسول الله يبكي رحمة بأعدائه، حتى قال له ربه: لا تذهب نفسك عليهم حسرات.

وعلى رغم أن بعض الناس يقرن البكاء بالحزن إلا أن الدمع قد يسيل مع الفرح، يطلق أسر مشاعر تصبرت أيام الحزن، فلما جاء الفرح... أطلق سراحها... دموعا.

البكاء رحمة، وفرط الرحمة قد يدفع للبكاء، ومن لا يرحم... لا يُرحم.

عافاكم الله من الحزن، ورزقم قلوبا رحيمة وعيونا باكية... ونفوسا مطمئنة.

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2461 - الثلثاء 02 يونيو 2009م الموافق 08 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً