عن نوف البكالي قال: عرضت لي إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حاجة فاستتبعت إليه جندب بن زهير، والربيع بن خثيم، وابن أخته همام بن عبادة بن خثيم، وكان من أصحاب البرانس (البُرنس: قلنسوة طويلة كان النُساك يلبسونها في صدر الإسلام). وكان همام، أو ابن عمّه الربيع في بعض الأقوال، من الزّهاد الثمانية، أي كان من الزهاد والعباد المشهورين في تلك الفترة، وهو عابد مجتهد من أصحاب أمير المؤمنين (ع)، كما كان أويس القرني أيضاً أحد هؤلاء الزهاد والذي اشتهر صيته في عشقه للنبي الأعظم (ص).
يضيف البكالي: أقبلنا معتمدين لقاء أمير المؤمنين فألفيناه حين خرج يؤم المسجد، فأقبل عليه همام بن عبادة قائلاً له: «صِف لي المُتَّقين كأَني أَنظرُ إلَيهم»؛ فتثاقل الإمام (ع) عن جوابه، ثم قال: «يا همام اتقِ الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون». ولكن يبدو أن هماماً لم يقتنع بهذا الرد المختصر، فقال: أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم، وفضلكم تفضيلاً، إلا أنبأتنا بصفة المتقين، فقال الإمام: لا تقسم فسأنبئكم جميعاً.
وبعد الصلاة، حفّ القوم به، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (ص)، ثم قال: «أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حيث خلقهم، غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم ووضعهم من الدنيا مواضعهم.
فالمتقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيُهُم التواضع. غضوا أبصارهم عمَّا حرَّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهُم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كَتبَ الله عليهم لَم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب.
عظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دُونهُ في أعينهم. فهم والجنَّةُ كمن قد رآها، فهم فيها مُنعَّمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها مُعذّبُون. قلوبهم محزُونة، وشرُورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتُهم خفيفة، وأنفُسهم عفيفة. صبروا أياماً قصيرة، أعقبتهُم راحة طويلة، تجارةٌ مربحة، يسرها لهم ربُّهم، أرادتهُم الدنيا فلم يُريدُوها، وأسرَتهُم ففدوا أنفُسهم منها».
ليس هذا بالطبع كل ما جاد به أمير البلغاء وسيد المتكلمين؛ ولكنه من خلال هذه الخطبة، التي أوردها كأوصاف للمتقين، والعلامات التي يتميزون بها، وبينما هو يستمر في الحديث، وكأنه موجّهٌ لنا من الطائفتين، وبعد أن عدّد حوالي 357 صفة من أهم صفات المتقين، وقبل أن يكمل الباقي، لم يتحمّل همام ما سمع، علماً بأن رجلاً مثل همّام لم يكن بعيداً عن التقوى والمتقين، فماذا حدث لهذا العابد؟
تقول الشواهد حول أسباب ما حدث لهمام في هذا الزمان الرمادي؛ أنه كان من الأتقياء وفي قمّة درجات الزهد الذي يمثّل أحد أهمّ عناصر التقوى. ولكن مع كل هذا ألح في السؤال، وهو لم يطلب أن يستمع لوصف المتقين حتى يصبح متقياً، بل أراد أن ينظر إليهم من خلال الوصف. فماذا سيحدث يا ترى لو طلب أحد المنافقين المسلمين من حولكم اليوم في الساحة هذا الطلب وتحقّق له، ونظر للمتقين، فهل سيتحمل ذلك وهو بعيد عنهم بُعد المشرق عن المغرب؟
وقد خلُص البحث إلى أن من بعض صفات المؤمنين المتقين الواردة في هذه الخطبة: الصدق، ومنطقهم الصواب، التواضع، القناعة والاقتصاد، الرضا بقضاء الله، الشوق إلى الثواب والخوف من العقاب، شرّهم مأمون، والخير منهم مأمول، عفّة النفس، الصبر على البلاء، عدم الوقوع في حبائل الدنيا، العبادة في الليل بالصلاة، اتصافهم بالعلم والحلم والإحسان إلى النّاس والتقوى، الاهتمام بالأعمال الصالحة - وليس إشعال الفتنة، وحبك المكائد في الطالعة والنازلة لإخوتهم في الدين والوطن. عدم الاستجابة لشهوة النفس، بعيدين عن الفُحش، بالألفاظ القبيحة، ولا يشتغل بالسبّ والشتم- وعندما تسمع بعض أصوات المسلمين عبر منابر الجمعة اليوم لا أظنك تجد صفة المتقين هذه تنطبق عليهم! وترك الظلم حتّى لمَن يبغضه، ولا يرتكب المعصية لارتضاء القريب، ولا يُنابز بالألقاب.
كما أكد البحث أن كل هذه الصفات لم تتجسد بعد فيمن يدّعون أنهم عبيد الله في الأرض، ويرومون الإصلاح فقط، وإعادة الأشرار من غيرهم إلى جادة الطريق بعد أن رفضوا فزلوا. فأين نحن اليوم من هذه الصفات، وصاحبك وأخوك في الوطن يطعنك علناً وسراً، ودونما حياء يشي بك ويخونك جهراً.
وفي عودة سريعة لأول خيوط هذه القضية الشائكة في أسباب ما حدث لهمام، لننظر لما قاله الإمام في مطلع الحوار: «يا همام اتقِ الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون»، فهذه المعية هي معية التأييد، والنصرة، والمباركة. فهل ما يقوم به البعض من على المنابر الإسلامية في الساحة المحلية، ناهيك عن الخارجية، هو من تقوى الله وعلى طريق الإحسان في مقام العمل، أم هو كما يقول مثل المصريين (اسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك استغرب)! فيا من تحسبون أنكم تحسنون صنعاً، ماذا فعلتم بالوطن وبإخوانكم في الوطن... إن كنتم متقين؟
وكما قال أحد الشهود في القضية، أن الإمام (ع) لم يقل خطبة الأنبياء والمرسلين، ولم يذكر المتقين ابتداءً، بل هي خطبةٌ يصف فيها الإنسان المتقي فقط. ثم أن هماماً كان رجلاً عابداً فلم تكن عنده مشكلة في الجانب العبادي، ومع ذلك أراد مواصفات المتقين، كما يراها علي بن أبي طالب (ع).
فقط لربما سبب تثاقل الإمام عن الإجابة نجده في نهاية الحدث، أي أن الإمام نظر للنهاية قبل أن يذكر البداية، فماذا حدث لهمام؟
لقد صُعق همّام قبل نهاية الخطبة، إذ اعترته حالةٌ لم يشخص الأطباء أسبابها الحقيقية حتى اليوم. بينما بعض شهود العيان قالوا أنه أُغشي عليه، والبعض الآخر قال أنه مات. ولكن جاء التشخيص الأروع من أكبر أطباء القلب في تاريخ البشرية حين قال (ع): «هَكَذَا تَصنعُ المواعِظُ البَالغة بأَهلِها».
فماذا حدث لهمام العابد المتقي، وماذا يمكن أن يحدث لكل عديمي التقوى اليوم؟ وهل نحن من أصحاب المواعظ البالغة؟ راجعوا أنفسكم لعلكم تكتشفون ذلك.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 4245 - الإثنين 21 أبريل 2014م الموافق 21 جمادى الآخرة 1435هـ
ايها الاستاذ المواعظ تنفع أهلها ولكن آذان أخرى لا تسمعها مهما بلغت
نعم لا يوجد توصيف أدقّ من توصيف سيد البلغاء والمتكلمين بعد كتاب الله وكلام رسوله الأكرم فهو يأتي بعد هاتين المرتبتين وكون الإمام هو الخرّيج الأول والأمثل والأقدر والأكثر والأعظم لمدرسة القرآن والرسول الأكرم فحتما هو قمة البلاغة بعدهما . فإذا وصّف الإمام المتقين وفصّل في صفاتهم فإن ذلك كلام له مدلوله وبعده وبالطبع من فتح الله قلبه يعي الكلمات لذلك لشدة وعي همام بلغ به الكلام مبلغ السف فخرّ مصعوقا لقوة تأثير كلمات الامام
ليس كل عابد تقي و إلا لما افتقر لها ابليس
ابليس كان عابدا ولكنه لم يكن تقيا اهتم بالكثرة و مع اول اختبار سقط و كم من شيطان بشري يحفظ القران كله و يؤدي الصلوات الخمس و يزكي ولكن تنقصه التقوى وهي ثمرة العبادة و هي نتاجها فاذا اختفت او لا اثر لها فمؤكد كان عمله يشبه عمل ابليس العابد