إذا كانت أعمار البشر تقاس بعدد سِني حياتهم، فعمر الروائي غابريل غارسيا ماركيز (1927– 2014) يُقاس بما رواه، فالحياة «ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه» كما يقول في مذكراته التي اختار لها عنواناً يختصر مسيرة ستة وثمانين عاماً: «عشت لأروي».
وعلى هذا تتضاءل أهمية عدد سنوات عمره بالنظر إلى ما خلفه من ميراث أدبي غزير ونوعيّ، نقله من صحافي يعمل بدأبٍ ليعيش، إلى أشهر أدباء الإسبانية في القرن الماضي أو ربما عبر القرون منذ أن وضع سرفانتس (ت 1616) رائعته «دون كيشوت» في القرن السابع عشر. يقول «غابو»، الاسم الذي يطلقه عليه رفاقه تحبباً: «عندما أجلس للكتابة أحاول أن أتفوّق على سرفانتس، وإلا فإنني أكون كرّرت سرفانتس».
كان لا يكف عن الكتابة، يقول: «غالباً ما كان الناشرون ينتزعون المخطوط من يدي لأني كلما أعدت القراءة عدت إلى التنقيح». كان يؤمن بأن أي عمل أدبي هو عبارة عن نصّ غير مكتمل، وأن الكاتب لا ينهي روايته أبداً لكنه يتخلى عنها.
واسعٌ هو عالم هذا الرجل، وكثيرون كتبوا عنه وحاوروه، واللقاءات الصحافيّة التي كانت تُجرى معه، كانت تتناقلها على الفور مترجمةً كبريات الصحف في أكثر من قارة في الضفة الأخرى من عالمنا حيث تنتعش العلوم والفنون والآداب، وتتناقل هذه الأصوات لأنها جديرةٌ بالسماع.
تعرّفت إلى الأدب اللاتيني، عندما قرأت «الحب في زمن الكوليرا»، التي تعد ملحمةً من ملاحم الحب، وفيها يقول «إن الحب في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يشتد كثافةً كلما اقترب من الموت». وفيها يتحدّث عن الحب في الشيخوخة، يقصّ ماركيز حكاية بطلَيْ روايته اللذين لم يتزوّجا في البدء لأن الأهل اعتبروهما في سن مبكرة للزواج، ثم نشأت ظروف فرقتهما. وعندما التقيا ثانيةً كان هو في الثانية والثمانين وهي في الستين، فقرّرا الزواج. يقول: «أعتقد أن الحب يظهر في أي سن، إنه الروح السليمة في الجسم السليم، عندما تكون الروح منطلقةً يتبعها الجسم بالحيوية نفسها».
شكّلت «ألف ليلة وليلة» كميراث أدبي من الشرق، منجماً لأرباب الصنعة في الشرق والغرب، ماركيز نفسه اعترف بأنه تعلّم السحر الروائي من هذا الأثر الخالد. هكذا أيضاً تكلّم الأرجنتيني الساحر خورخي لويس بورخيس (ت 1986) عن ليالي الشرق الساحرة.
دخل «غابو» عالم الأدب من بوابة الصحافة، وكان قد ودّع مقاعد الدراسة الجامعية كطالب حقوق، مفضلاً التفرغ إلى العالم الذي اختاره وشغف به: الكتابة. وفي العشرين من عمره كان يكتب كل يومٍ قصةً لإحدى المجلات، وفي الليل كان يغتنم خلو المكاتب ليعمل على كتابة رواية طويلة. «أقرأ وأكتب من السادسة صباحاً حتى الثانية ظهراً. وإذا توقّفت يوماً واحداً تصعب عليّ الكتابة في اليوم التالي» يقول.
يتحدّث الحائز على جائزة نوبل بامتنان عظيم عن الصحافة التي شكّلت العتبة الأولى في سلّم نجاحه كروائي عالميّ، تميّز بشدة الخصوبة واتساع الخيال والثراء والتنوع الخلاق، «إنني مدينٌ بالكثير للفن الصحافي؛ إذ بدأت صحافياً وفي استطاعتي القول إنني لولا الصحافة لما كتبت القصة. كنت أستعين بالتقنية الروائية في مقالتي الصحافية. إن ذكرياتي الصحافية تمنعني من الانسياق في شتم الصحافة لمجرد انحرافها عن دورها».
ماركيز كاتب دائم الاندهاش، ويقول إن هذه المقدرة على الاندهاش تأتت له من الصحافة، ووظّف معطياتها في أدبه ببراعة وتمكن عجيبين.
وقبل أن يتوقف غابو عن الكتابة نهائياً في العام 2005 كان هذا الكولومبي المتمرد ذو المزاج الحزين، يكتب بشكل يومي وبسهولة. في البداية كل شيء صعب، ويحدث أحياناً أنه كان يجلس أمام الورقة البيضاء برأس فارغ، وقد تمر أيام هكذا، وحين يعثر على المدخل يسهل الأمر. كان يقول إن كتابة الفصل الأول من الرواية هو أصعب ما فيها، وقد يستغرق ذلك سنة. لكن ما أن يتم الفصل الأول حتى ينجز الفصول بسرعة كبيرة، فالفصل الأول هو ما يحدّد إيقاع الكتاب كله، وحجمه وأسلوبه. وكثيراً ما عمل بنصيحة الكاتب الأميركي أرنست همنغواي (ت 1961) التي استخدمها كحيلة مساعدة لتجاوز محنة اكتمال المشاهد. فقد كان همنغواي ينصح الكاتب ألا يصر على إنجاز المشهد الذي يكون بدأه، بل أن يترك تتمة المعالجة لليوم التالي.
كان «غابو» مناضلاً ثورياً آزر حركات التحرّر، وواجه الثقافة الإمبريالية والكولونيالية، داعياً إلى منح الشعوب المستعمَرَة حرياتها وحقوقها، وهو أيضاً نصيرٌ للقضية العربية ويقف إلى جانب الحق العربي، لذلك طالب في مقال له نشرته «الباييس» في أكتوبر/ تشرين الأول 1982 تحت عنوان «جائزة نوبل للموت لبيجين وشارون»، وذلك قبل فوزه بالجائزة العالمية بثلاثة أسابيع تقريباً، تحدّث فيه عن جائزة نوبل للسلام التي منحت لرئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيجن. وكانت مواقفه الجريئة في إدانة المجازر التي ترتكبها «إسرائيل» ضد الشعب الفلسطيني وفي توقيع بيانات الاستنكار العالمية تجسّد هذا النَفسّ الإنساني الملتزم.
نجح ماركيز في التوفيق بين كونه كاتباً ملتزماً ومنخرطاً في النضال السياسي و«الإنساني»، وروائياً متسامياً صاحب مخيلة ساحرة ونفَس ملحمي ونزعة تراجيدية تسائل ذاكرة التاريخ وعنف البشر ومأساة الحياة وعزلة الإنسان، بصفتها قدراً مجهولاً وغامضاً.
لقد رحل عنا ماركيز، لكن اليقين أن آثاره الأدبية الخالدة ستبقى معنا طويلاً... طويلاً جداً.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4245 - الإثنين 21 أبريل 2014م الموافق 21 جمادى الآخرة 1435هـ
شكر يا وسام
بصراحة حتى هذا الوقت لم أكن مهتما بقراءة الروايات كثيرا، ولكن مقالك (الترويجي) يجذبني إلى دخول هذا العالم وخصوصًا (غابات) غابو الساحرة.
افعلها ولن تندم
افعلها ياصديقي ولن تندم.. صدقني
صاحب المقال و الاخوة
محمد وقاسم وهاني والاخت مريم
واخرون
فانا انتظر مقالاتهم بشكل يومي
اشكر لك اهتمامك
اشكر لك اهتمامك وثقتك.. سلمت
ابصراحة
شجعتونا نقرأ له لذكره من قبل اكثر من كاتب
قبل الوسط كان كتابها بسطاء
الان اجد عدد لا باس به من البحرينيين سنة وشيعة لديهم مستوى راقي جدا يرفع من مستوى وعينا
واذكر بعض الاسماء
سلمت يداك
مقال رائع ومفيد، سلمت يداك
مرورك جميل
مرورك جميل.. شكرا لك