بقلمه المبدع والرشيق، كفاني الصديق والزميل جعفر الجمري عناء الكتابة عن ماركيز. لكن، ما لم يكْفِني إيَّاه (وآخرون) هو «واجبي» تجاه الراحل، في تدوين كلمة رثاء فيه. فعلاقتي بغابرييل غارسيا ماركيز، هو أنني سعيتُ وراءه كالملايين، طمعاً (فقط) في إدراك ما يكتبه من أدبٍ رفيع، ولغة مختلفة، مدفوعة بخيال ساحر لا نظير له ولا صنو.
لاحقتُ أغلب ما كتبه ماركيز في أعماله الأدبية (إن لم يكن كلها). وعندما عَصَرتُ آخر ما فيها من أدب، أعَدتُ قراءتها من جديد. لم أشعر مطلقاً أنني كساقية تدور في مكانها، بل كنتُ أرى النصوص تعيد إنتاج ذاتها في كل مرة. روايته «الحب في زمن الكوليرا»، قرأتها بالعربية مستمتعاً ثم بالإنجليزية مُتعَباً. كان هدفي هو أن لا أبقى بعيداً عن إفاضات غابو. ولو كان لي حظ ولو يسير في الإسبانية لما ترددت في قراءتها «إسبانياً»!
كانت إحدى أكبر تحديات القراءة في حياتي قبل ثمانية أعوام، هي أن أنهِي روايته التي حاز بها جائزة نوبل للآداب «مئة عام من العزلة». ليس لأنها من خمسمئة صفحة، بل لأنها رواية، مليئة بشخوص مُتَّحدِي الاسم، مختلفي الذوات والفعل. لقد ظهر أن خوسيه أركاديو بوينديا يظهر مع ريبيكا، ثم مع صوفيا، ثم يظهر ثانيةً بهيئة جديدة، ثم ثالثة. تكرر هذا الغموض مع أوريليانو وأمارانتا أورسولا، ومع ميمي/ ريناتا، والأبناء السبعة عشر لحروب الكولونيل. وكان الصديق حسين مرهون، يضحك كلما رآني حائراً.
كان ماركيز يمتاز بقدرةٍ على الوصف لا مثيل لها، حتى تعتقد أن الموصوف يقف أمامك. كان يصف فلورينتيو ارثيا بأن جسده «عظمي ومعتدل. بشرته بُنّية ومرداء، وعيناه شرهتان تُطلان من وراء النظّارة المستديرة ذات الإطار المعدني الأبيض وله شارب رومنسي. طرفاه المُدبّبان مُثبتان بمادة مُثبّتة. وكان آخر ما تبقّى له من الشعر على الصدغين مُسرّحاً ومثبتاً بمثبت شعر في وسط رأسه اللامع كحلٍّ أخير لصلعة متكاملة».
في روايته «خريف البطريرك»، أبدع ماركيز في وصفه للحوادث والطباع والأفراد والحوارات بطريقة قد تُنسِي ما قبلها من رواياته، وتتعب ما بعدها. كانت رواية غنية بالمعاني، والتعبيرات الشفافة والمباشرة، لكن غير التقليدية أيضاً. كان يصف أحد الضحايا بطريقة عجيبة: تمّ تقطيع الجثة إرباً إرباً، وعُرِضَ الرأس مُملّحاً بملح خشن في ساحة الأسلحة، والسّاق اليُمنى في الناحية الشرقية من سانتا ماريا دل آلتار، واليُسرى في الغرب الذي لا حدود له من صحاري ملح البارود، وذراع في المرتفعات، والأخرى في الغابة».
كما اعتاد ماركيز على غرس «أقوال الحكمة» في روايته بين سطر وآخر، أو صفحة وأخرى. كان يبتكرها بلغة عميقة، وبعقل وقَّاد، وبتجربة ثرية، لا اجترار فيها ولا تقليد. كان يقول: «إن المرء لا يُمكن أن يكون سعيداً دون الحب فحسب بل وضده أيضاً». وكان يقول: «المرء يتعلّم اللغات حين يُريد أن يبيع، أما عندما يريد الشراء فالجميع يفهمونه كيفما كان». ومرة قال: «لست ثرياً... أنا فقير يملك مالاً».
كانت لماركيز القدرة على تعريف الأشياء بشكل دقيق، وخصوصاً مسألة الحب والغرام، التي أرَّقته ولاحقته حتى أيامه الأخيرة. كان ماركيز شفافاً في عواطفه، وحالماً لحد الجنون. كانت نظريته في الحب تقول: «الأمن والنظام والسعادة هي أرقام ما إن تُجمع إلى بعضها حتى تتحول مباشرة إلى شيء كالحب: الحب تقريباً، ولكنها ليست الحب». لأن قناعته الراسخة كانت تقول: «إما أن يُولد الإنسان وهو يعرف الحب أو أنه لن يعرفه».
ورغم انغماس ماركيز في واقع سحري أدبي، إلاَّ أنه كان يطرح قضايا سياسية محددة في أميركا اللاتينية وغيرها. كان يقول: «الديمقراطية الكولومبية تنفع برئيس ميّت أكثر من انتفاعها برئيس هارب»؛ وأن «بطاقة الهوية الوحيدة لرئيس مخلوع يجب أن تكون برأيه شهادة وفاته»؛ وأن «الذي يسقط في السياسة ينهار إلى الأبد»... معرّجاً على الحروب الأهلية، وعلى سلوك الزعامات الديكتاتورية في الحكم.
لقد كان غابرييل غارسيا ماركيز مؤثراً جداً على قارئيه، بشتى مراتبهم، كأنه ساحرٌ يحرّك يديه على أجسادهم فيتحكم في اختياراتهم الأدبية واللغوية. وربما الخطيئة الوحيدة التي قد لا أغفرها له، أنه لم يجعلني قادراً على قراءة روايات لغيره إلاَّ ما ندر؛ لأنني صرتُ عاجزاً عن رؤية التشابه بينهم وبينه. كان ذلك بالنسبة لي سجناً اختيارياً قبلتُ به عن إرادة، ولم تفرضه «الماركيزية» علي. وهو احتكار ليس سهلاً أن يتحرر المرء منه.
في الصورة التي وزعتها وكالات الأنباء لغابرييل غارسيا ماركيز في أيامه الأخيرة، بدا الراحل هزيلاً شاحباً. تذكرتُ وصفه لأبطال رواياته. «عينان بلا نور»، و»جسده مُبرعماً ببثور الحكاك»، «شعره خلاسي مفروق في وسطه مع خصلة بيضاء كابية»، «كان من الصعب التسليم بأن ذلك الشيخ الذي لا يُمكن إصلاحه وهو بقية إنسان»، «كان عمره ثمانون عاماً في اليانصيب الخيري، وستّون عاماً في الاجتماعات المدنية وأقلّ من أربعين عاماً في المهرجانات العامة»... هكذا كان يصف مَنْ وصفهم في روايته.
وما كتبه قبل أربعين سنة في ناس رواياته من وصف، بات متحققاً فيه. وهو بذلك، يعتبر رساماً ماهراً أيضاً. فالرسام السويسري الشهير بول كلي كان يقول: «ليس على الرسام أن يرسم ما يراه، بل ما سوف يُرى». وهو ما استطاع ماركيز أن يحققه ولكن برسم الخيال.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4244 - الأحد 20 أبريل 2014م الموافق 20 جمادى الآخرة 1435هـ
مبدع
صدقت لقد كان ماركيز مبدعا بحق
تحية
لله درك من كاتب
مقال روعة