نعم للموت ذوقٌ رفيع؛ فهو يعرف من يختار، ويعرف تماماً كيف ينتقي ضحيته الجديدة بكل دقة وانتصار.
يعرف من أي الأبواب يمكنه أن يدعو الحزن معمراً وفتياً، فيشرع في فتحها إليه واسعة مغرية لدخول قلوب لا تقوى على المزيد منه.
حين تسمع خبر وفاة أحدهم، تصاب بسكتة حياتية لوهلة، تقلّب ذاكرتك بحثاً عن كل المواقف التي جمعتك به، وإن لم تلتقِ به وجهاً لوجه، فإنك تبحث عن كل كلمة قرأتها له إن كان كاتباً، وكل كلمة سمعتها منه إن كان خطيباً، وكل ضربة ريشة شاهدتها له إن كان فناناً، وتبحث في ذاكرتك عن كل ضوء أحاله صورة إن كان مصوراً. تبحث في الوجوه من حولك عن وجهه حتى إن لم يكن شخصية عامة وكان مجرد رديف لك في الإنسانية، فإنك تبحث عن كل شاردة وواردة احتوت وجوده وقدمت إليك حضوره على طبق من ذاكرة من خلال مواقفك أو مواقف من حولك معه.
في الموت يصل التعاطف مع الآخر منتهاه. التعاطف مع الآخر الذي خلّفه الفقيد وراءه ليكون أسيراً لحزنه وحنينه وشوقه، ليكون هشّا بما يكفي لتهزمه دمعته مع كل وجبة حنين، وليكون صلباً بما يكفي ليعاند النسيان، نسيان الفقيد الذي خلف صمتاً وأوقف المشهد عند لحظة الرحيل. يتعاطف البشر مع بعضهم في هذه اللحظة: لحظة سماع الخبر للمرة الأولى وربما يستمر لشهر أو اثنين، ولكن ما يلبث أن ينسى هؤلاء الفقيد والفاقد، ليكون الفقيد مجرد راحل «ارتاح من الدنيا»، والفاقد مجرد عزيز واسيناه بما يكفي، ناسين أن الفقد يترك جمرة في قلب إن كان الفاقد أماً أو أباً، أخاً أو أختاً، زوجة أو زوجاً، ابناً أو ابنة، حتى الأصدقاء ما يلبثون أن ينسوا فقيدهم، لكنها القرابة هي التي تدوم.
النسيان نعمة مرغوبة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بنسيان حزن، ولكنه القلب دائماً ما يخذل صاحبه، فتساعده الذاكرة على هذا الخذلان، حين يكون الفقيد قريباً حبيباً يصعب على القلب نسيانه. ربما تخف وطأة الحزن مع الوقت، ربما يقلّم الزمن أظفاره فلا يكون خادشاً ينخر الحس، لكنه يبقى فتياً مع كل ذكرى، ويبقى وفياً بشكل فجٍّ فلا يغادر.
مناسبة هذا الكلام هو ما عاشه أهل البحرين في نهاية الأسبوع الماضي حيث توفي أحد شبابها، وقبلها بليلة توفي الروائي الكبير ماركيز، ولأني تذكّرت عبارة قالتها أمي الثانية، والدة زوجي، حين توفي: «ستجدين الناس من حولك مادام العزاء باقياً، وبمجرد أن تنتهي الأيام الأربعة لن تجدي وجهاً من هذي الوجوه هنا!».
يالله! كيف يمكن لإنسان أن يشرّح الحياة جيداً حتى وهو في قمة حزنه؟ نعم، انفضّ العزاء وانفضت معه الوجوه جميعها إلا قليلاً كانت تتناقص مع الوقت! لا يمكن لأحد أبداً أن يفرض حزناً دائماً على أحد، ولا يمكن لأحد أن يرغم أحداً على رفقته بشكل دائم لاقتسام لحظات الفقد معه كما يقتسم معه لحظات السعادة والنجاح، لكنها الحاجة لآخر هي التي تجعل البشري يبحث في القلوب من حوله عن قلبٍ يحتضن مشاعره بصدق، فيخفّف من وطأة دمعه. كما لا يمكن لأحدٍ أن يخفّف دمع أحدٍ ما لم يستطع هو نفسه أو يرغب في أن يكون قوياً بما يكفي ليوهم الوقت أنه قادر على هزيمة الحنين، وقادر على صرع الألم. فالقوة الحقيقية تكمن في أرواحنا نحن لا في الآخر الذي سيكون مساعداً لاكتشاف هذه القوة.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4244 - الأحد 20 أبريل 2014م الموافق 20 جمادى الآخرة 1435هـ
ستراوية
رحمك الله يا أمي وأسكنك فسيح جناته
كل فقيد ينسى إلا الأم
فهي لا تنسى فذكراها في قلوب أبنائها مدى الحياة
الحياة أجمل ان نتكلم بها
يأسفني أن اري من الكاتبه المتميزه ان تكتب عن الموت وفي الموت لما لا نكتب عن الحياة وما فيها وكيف نجعلها جميلة - أم هو حال الوضع وما ينعكس في أنفسنا وتسيطر عليه تلكما الغيوم السوداء والتشائم يقودنا بالكتابه في الموت نعم يجب أن لا نخاف الموت وهو جميل للقاء الاحباب الذين ذهبوا وأني لا أخاف الموت ولكن الوضع المتازم الذي نعيشه في هذا الوطن الجميل يحتم علينا أن نزرع الامل ونتكلم بما يفيض السعاده ونحاول الجمع لما أختلف فيه الفرقاء ونذكر محاسن من مضوا لنعش ونبني ونبتسم والحياة جميله يا سوسن مع حفظ الالق
الموت
اصبح الموت في زمننا حدث عابر لا يستحق الوقوف عنده لاكثر من قول الله يرحمه إن كان في قلب القائل رحمة أساساً. تعودنا على الكثرة فيه و على بشاعة المناظر و صدق الله عندما قال في محكم كتابه: ( قُتل الإنسان ما أكفره)