العدد 4242 - الجمعة 18 أبريل 2014م الموافق 18 جمادى الآخرة 1435هـ

البحرين في القرن التاسع الميلادي: النقل الثقافي بين دلمون وأوال

من خلال ما عرضناه في الحلقات السابقة، يتضح لنا، أن أقدم منطقة استيطان في الحقبة الإسلامية هي جزيرة المحرق التي كانت تعرف باسم ماشماهيج أو سماهيج، ويبدو أن غالبية سكانها كانوا من النساطرة. ومنذ القرن الثامن الميلادي ظهرت آثار السكنى في جزيرة أوال، وظهرت أول عاصمة في جزيرة أوال وهي البلاد القديم. وهكذا، تبدو صورة البحرين في القرن الثامن الميلادي وقد أنشأ فيها أربع قرى، على الأقل، مبنية بالطين والحجارة في كل من المحرق، والبلاد القديم، وعالي، وباربار. وقد عثر في كل قرية مما سبق على آثار تدل على عدد من المهن والصناعات التي عرفت في البحرين. ففي البلاد القديم، كما أسلفنا في الحلقة السابقة، عرفت من المهن النادرة مهنتين هما: تحضير أظفار الطيب، وتحضير الصبغة الأرجوانية. أما في القرية الإسلامية في عالي فقد عثر على أقدم مدبسة بنيت في العصر الإسلامي في البحرين، وأما في المحرق فقد عثر على دلائل تشير لوجود مهنة الغوص واستخراج اللؤلؤ.

هذه بعض المهن التي سنتناولها بالتفصيل لاحقاً، ويلاحظ أنها مهن حضرية لم تعرفها القبائل العربية، إلا التي تحضرت منها وعايشت الحضر. وهذا يعني حدوث عمليات نقل ثقافي بين الشعوب المتبقية والمنتسلة من شعوب حضارة دلمون والقبائل العربية التي هاجرت إلى البحرين على مراحل مختلفة.

آليات النقل الثقافي بين دلمون وأوال

يلاحظ أن القبائل جاءت من البادية إلى بيئة شعوب مستقرة تعتمد على الزراعة وصيد البحر بالإضافة إلى مهن أخرى، وهذا يعني حدوث تغير سريع جداً بالنسبة لبيئة هذه القبائل التي يتوجب عليها الآن أن تتكيف مع هذه البيئة الجديدة. لا نعلم متى بالتحديد حدث التفاعل بين القبائل والشعوب المستقرة في البحرين، لكن المرجح حدوث توغل لثقافة الشعوب الحضرية المستقرة في البحرين إلى الشعوب القبلية التي هاجرت إلى البحرين. وقد بدأت تلك القبائل العربية بالاستقرار وتقبل التحضر؛ وبذلك اكتسبت هذه الشعوب ثقافة جديدة مكنتها من الاستمرار في البيئة الجديدة. ويمكننا أن نحدد، على الأقل، آليتين من طرق اكتساب الثقافة الجديدة التي مكنت تلك الشعوب القبلية من التحضر. من هذه الطرق التوغل الثقافي الأفقي والتأقلم المحلي. ويقصد بالتوغل الثقافي الأفقي، أن الجماعات القبلية الجديدة اقتبست جزءاً من ثقافة الشعوب الحضرية المستقرة في البحرين نتيجة تعايشهم جنباً إلى جنب، وفي هذه الحالة قد يكون انتقال العناصر الثقافية للمجموعات الجديدة سريعاً أو بطيئاً؛ وذلك اعتماداً على مدى تعرض الشعوب القبلية لثقافة الشعوب الحضرية. وقد تكتسب الشعوب القبلية عناصر ثقافية جديدة في سن مبكرة، أي بين الأجيال المختلفة (من جيل الآباء لجيل الأبناء) أو في سن متأخرة، أي ضمن الأجيال المتعايشة نفسها وهذا ما يعرف بالتوغل الأفقي.

أم الآلية الثانية فهي التأقلم المحلي، ويقصد بذلك أن الجماعة الجديدة في سبيل تأقلمها مع الحياة الجديدة لابد أن تمتلك عناصر ثقافية معينة تمكنها من سلك نظام حياة جديد بدلاً من نظام حياة البادية، وكذلك تمكنها من تجاوز التحديات البيئية الجديدة التي يفرضها نظام الحياة الجديد. وتتميز هذه الآلية بتقييم البدائل المتوافرة أو حساب الربحية أو اختراع طرائق معينة. يذكر أن طبيعة بيئة البحرين التي تساعد على حياة الاستقرار هي التي فرضت هذا النوع من التغيير على هذه المجموعات القبلية الوافدة. فقد كانت البحرين جزيرة أرضها خصبة، ومليئة بمصادر المياه الجوفية. ومثل هذه الطبيعة تفرض نوعية معينة من المهن على أفرادها، كبناء السفن، وصيد الأسماك، والزراعة، بما في ذلك الصناعات المرتبطة بتلك المهن. فالقبائل العربية التي هاجرت إلى البحرين كان يتوجب عليها أن تتعلم هذه المهن من الشعوب الأقدم منها والتي كانت تسكن على هذه الأرض.

وسنتناول في هذه الحلقة إحدى المهن التي كانت رائجة في البحرين في حقبة دلمون وتم توارثها جيلاً بعد جيل حتى يومنا هذا، ألا وهي مهنة صناعة الدبس. فقد عثر في القرية الإسلامية المبكرة في عالي على بقايا أقدم مدبسة إسلامية تعود للقرن التاسع الميلادي (Sasaki et. al. 2011).

الچندود والمدبسة

الچندود (الكندوج) هو مصطلح محلي يقصد به مخزن التمر وهو عبارة عن غرفة صغيرة في المنازل الحجرية لا يوجد لها نوافذ أو فتحات هواء بل فقط باب، وقد تكون جدرانها من الفروش الحجرية أو مطلية بطين معالج يشبه الأسمنت أو نوع من الجص المعروف في ذلك الوقت لكي لا يتسلل إليها بعض الحشرات أو الفئران عن طريق الحفر في الجدار. وأصل اللفظ كما ورد في المعاجم اللغوية «الكندوج»، جاء في معجم «لسان العرب»:

«الكَنْدُوجُ»، بالفتح: «شِبْهُ المَخْزَنِ». وفي المصباح: وضُمَّت الكافُ لأَنه قياسُ الأَبنية العربيّة. وفي الخِزانة الصَّغيرةُ «مُعَرَّبُ كَنْدُو».

وفي هذه المخازن يتم رص جلال التمر (أوعية تتخذ من الخوص والمفرد جلَّة) وجلل فوق بعضها البعض بحيث لا يتبقى أي فراغ بين جلة وجلة أخرى أو بين الجلال وبين الجدران.

أما المدبسة فهي عبارة عن قنوات في أرضية «الچندود» يجري فيها الدبس؛ حيث إنه بسبب ضغط الجلال على بعضها يبدأ الدبس بالسيلان من تلك الجلال فيتجمع في أرضية المخزن. وتتكون المدبسة من عدة قنوات متوازية، وجميع هذه القنوات تتصل في نهايتها بقناة واحدة جامعة، وتتصل هذه القناة بحفرة تسمى (جابية) يتجمع فيها الدبس وقد يوضع في هذه الحفرة جرة كبير مصنوعة من الفخار لكي يجمع فيها الدبس. ويتم تغطية القنوات بعازل وذلك لعزل التمر عن رطوبة الأرض، وغالباً ما يكون العازل عبارة عن دجاين وهو جمع دجينة وهو حصير مصنوع من جريد النخل ومربوط بالحبال، وأحياناً يتم وضع سعف النخيل أو يتم صناعة حصير خاص من الخوص الأخضر مباشرة (دون تجفيفه).

تطور المدبسة منذ حقبة دلمون

صناعة المدابس هي صنعة قديمة درج على ممارستها سكان دلمون منذ فجر التاريخ وعلى رغم تشابه الشكل العام في صناعة المدبسة إلا أن هناك فروقاً طفيفة في صناعة المدبسة؛ فهناك نوع من التدرج في صناعتها، يبدأ من المدابس الأكثر بساطة إلى المدابس الأكثر تعقيداً، وقد درس Hojlund تطور المدابس في حقبة دلمون واستنتج وجود ثلاث مراحل أساسية لتطور المدابس في البحرين:

المرحلة الأولى: القنوات الخشبية (2000 ق. م. - 1900 ق. م.)

في هذه الحقبة كانت تصنع القنوات المتوازية المكونة للمدبسة من الأخشاب فقط؛ حيث كانت توضع أعمدة خشبية بصورة متوازية ومن ثم تغطى بغطاء ويوضع من فوقها التمر (Hojlund 1990).

المرحلة الثانية: القنوات الخشبية المغطاة بالجير (1600 ق. م. - 1500 ق. م.)

في هذه الحقبة كانت تصنع القنوات المتوازية المكونة للمدبسة من الأخشاب والجبس؛ حيث يتم وضع أعمدة خشبية بصورة متوازية ومن ثم يتم تغطيتها بمسح تلك الأخشاب بالجبس أو أي مادة أخرى للبناء والمسح (Hojlund 1990).

المرحلة الثالثة: القنوات الحجرية

وهذه هي المدابس التي بقيت حتى وقتنا الراهن حيث تصنع القنوات الأرضية من الجبس أو أي مادة حجرية أخرى ولا يستخدم في صناعتها الأخشاب، ولا نعلم بالتحديد الزمن الذي بدأ فيه صنع هذا النمط من المدابس، إلا أن أقدم مدبسة عثر عليها في البحرين من هذا النمط كان في القرية الإسلامية المبكرة في عالي ويعود تاريخها للقرن التاسع الميلادي (Sasaki et. al. 2011).

العدد 4242 - الجمعة 18 أبريل 2014م الموافق 18 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً