العدد 4242 - الجمعة 18 أبريل 2014م الموافق 18 جمادى الآخرة 1435هـ

المخيلة في عزلتها برحيل «غابو»

توفي غابرييل غارسيا ماركيز، أحد أكبر الكتاب باللغة الإسبانية الحائز جائزة «نوبل» للآداب يوم أمس الأول (الخميس)، في منزله في مكسيكو إثر إصابته بالتهاب رئوي. وبعد بضع ساعات أعلن الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام.

وأكد الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس على حسابه في «تويتر» نبأ الوفاة الذي كشف عنه صحافي مكسيكي بقوله: «مئة عام من العزلة والحزن على وفاة أكبر كولومبي في التاريخ»، في إشارة إلى الرواية الشهيرة «مئة عام من العزلة» التي اشتهر الروائي بفضلها.

وتجمعت الحشود بعد ظهر الخميس أمام منزل غابو في مكسيكو الواقع في حي إل بيدريغال دي سان أنجل الراقي.

وكانت حالة الروائي الصحية «هشة للغاية» خلال الأيام الأخيرة.


عزلة المخيلة برحيل «غابو»

الوسط - جعفر الجمري

لم يعمل روائي في قرنين شهدنا كبارهما على خلخلة الرواية التي ظلت سائدة، بهيمنة السحر عليها، سحر العوالم والشخصيات والذوات والمصائر، وبلغة أكثر سحراً، كما فعل الروائي الكولومبي «غابو» أو غابرييل غارسيا ماركيز.

ولم تعرف اللغة الإسبانية أعمالاً طبعت بنهم وإقبال متواصلين بعد الكتاب المقدّس (الإنجيل) كما طبعت أعمال ماركيز؛ إذ يكفي معرفة أن «مئة عام من العزلة» باعت أكثر من 50 مليون نسخة.

ومن أصل عشرات الأعمال الروائية والقصصية والشذرات النقدية والسيرة، وحتى الورش التي أشرف عليها في عدد من الجامعات المرموقة، تمت ترجمة 24 عملاً له إلى العربية، علماً بأن درّة أعماله «مئة عام من العزلة» ترجمت وحدها إلى أكثر من 25 لغة عالمية.

في كل أعماله التي تم تعريبها، ولم تأت بالترتيب: «الحب في زمن الكوليرا»، «الحب وشياطين أخرى»، «في يوم من الأيام»، «أشباح أغسطس»، «الأم الكبيرة»، «الجمال النائم»، «الجنرال في متاهته»، «الموت أقوى من الحب»، «بائعة الورد»، «ثمن عشرين قتيلاً»، «خريف البطريرك»، «عشت لأروي»، «عينا كلب أزرق»، «غريق على أرض صلبة»، «في ساعة نحس»، «قصة موت معلن»، «كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى»، «مئة عام من العزلة»، مسرحية «خطبة لاذعة ضد رجل جالس»، «ليس للجنرال من يكاتبه»، «إيرينديرا البريئة»، «اثنتا عشرة حكاية تائهة»، «ذاكرة غانياتي الحزينات»، «من الرأي إلى الإيمان»، «أجمل غريق في العالم»، «ضوء مثل الماء»، «عذراً على التأخير»، «نزوة القصص المباركة»، وغيرها من الأعمال، لم يبتعد عن الواقعية السحرية التي لم تبتدعها أميركا اللاتينية بل عرفها الأدب الألماني منذ خمسينات القرن الماضي، ولكنها تعمّقت وتكرّست بروائع أعمال عرفها العالم في أميركا اللاتينية وكان حامل جرأتها بامتياز ماركيز.

تقنية تختلط فيها الأوهام والتخيلات ضمن بنية السرد. تحطيم لكل الفضاءات واختراقها، تحريك ما لا يتحرك، والأكثر من ذلك كله دفعه دفعاً إلى التحليق في صور وتجسيدات مدهشة تلامس الحس وتركب المخيلة وتعمل على الاحتفاظ بقدرتها الفائقة في اختراق الزمن وتجاوز المكان! حضور الأساطير والحكايات الشعبية، نسفاً لواقع محدود ومحاصر ولا استثنائية فيه؛ إلا إذا اعتبرنا العبث الفقير إحدى مواهبه! تلك القدرة الفارقة على المزج بين الواقعي والخيالي. حضور المتقابلات والنقائض، والمزاوجة بينهما بسحر لا يتأتّى إلا لسيده (غابو) في بيئة ومحيط ضج واكتنز بهما، من جدِّه العقيد الذي وصفه بـ «الحبل السري»، من حيث قدرته على الرواية التي تكاد لا تتوقف لديه، إلى علاقته بالقاموس الذي درّبه على الاستعانة به، إلى السيرك الذي كان يأخذه إليه كل عام، وما علق بذهنه حين قال له: «لا تعرف كم يزن قتل شخص»! إلى جدته ترانكيلينا أجواران كوتس، تلك التي وصفها بـ «امرأة الخيال والشعوذة» واعترف بتأثره البالغ بها.

كان شرقياً في ذهابه إلى الأسطورة والسحر. في توغلّه في عوالم الميتافيزيقيا. من شخصياته التي أراد لها أن تكون ملتصقة بالشرق بكنوز وفائض سحره وفائض الخيال فيه، إلى التي اختارها زوجاً له «مرسيدس» مصرية الأصل. الشرق هو السحر. السحر هو الشرق هكذا كان يراه، وهكذا تعامل معه في جل روائعه.

في حوار هو الأهم من حيث الجديد في استدراجه ذلك الذي أجرته إكرام أنطاكي في أحد مقاهي مكسيكو سيتي. كان الشرق حاضراً؛ أو بالأحرى تعمّد أن يستهل ما قبل اللقاء به. تحدّث عن مرسيدس، قبلها تحدث عن الشاعر الكوني الراحل محمود درويش وبمشاكسة غير متوقعة: ماذا يريد محمود درويش مني؟ إنه لا يبدو عربياً، إنه لنقل، يبدو هندياً. لابد أن محمود درويش هندي، لنتفق على ذلك. كان فقط يريد أن يشير من دون وجع التفاصيل التي ظل منحازاً إليها في وجع الشرق الأكبر: فلسطين. يريد لمحمود درويش بدعابته أن يكون هندياً في إحالة وإسقاط على نهايات أهل الأرض في بلاده وغيرها، بفائض الاحتلال وهجراته التي لا تنقطع إلى أرض لا تاريخ له فيها! تلقى دعوة لفلسطين. طلبوا منه ينتظر ريثما تهدأ المدافع. تلقى دعوة من «إسرائيل» قال: أود زيارتها كي أعرف واقع الأرض ولكنني لن أفعل.

برحيله لن يصاب السرد بعزلته فحسب، سنكون رهائن للبشاعة من فعل الرواية في عالم مصاب بذهول أعجز مخيلته، إلى ما بعد تفاصيل الرواية من بشاعة على الأرض تطول الإنسان.

رحل «غابو» يمكن للعالم الآن أن يكاتب جنرالاته.

العدد 4242 - الجمعة 18 أبريل 2014م الموافق 18 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً