تغيب أو تنعدم الرحمة فلا ندري إلى أي الكائنات ننتمي. كيف لنا أن نتخيل إنساناً وهو مجرد من تلك القيمة؟ كيف للعلاقات بين البشر أن تستقيم مع بني جنسهم وغيرهم من المخلوقات بانتفاء وغياب تلك النعمة؟ من نعم الله على خلقه أنه يحب أن يرى شيئاً من صفاته تتجلّى فيهم كي يتوازنوا وتستقيم حياتهم: الرحمة. بتلاشيها لا توازن ولا استقامة، بل النقيض من كل ذلك. وبتلاشيها أيضاً تتلاشى علاقة البشر مع الله. من لا تُرجى منه رحمةٌ لا يُرجى منه خير، ومن لا يُرجى منه خير فهو عن الله أبعد، ومطرود من الرحمة التي كتبها الله على نفسه.
لا تلتقي الرحمة واضطراب في شئون الناس، أو حتى البسيط وما يُعتَقدُ أنه هامشي من تلك الشئون. لا تلتقي الرحمة وفساد يعم المحيط ليتجاوزه بصريح النص: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» (الروم: 41)، والظهور هنا الوضوح والاستماتة والمكابرة بحيث تتحول إلى عادة وعرْف. ولا يكون ذلك أيضاً إلا بشطب الرحمة وإلغائها وكأنها لم تكن!
ذلك الكسب في الفساد والجوْر والتعالي والغرور، لن تتحقق به نتائج سارة تبعاً للمقدمات، بحسب أبسط دروس المنطق التي وعينا ووعى عليها كثيرون. وهو وعي بالفطرة بعيداً عن التقعيد والتأصيل. وهو كسب شاذ ومنحرف وخلاف الفطرة يكاد يكون شائعاً وعادياً بتكراره، مما يجعل الرحمة في نأي وغياب ومنفى تكاد لا تنفك منه.
وعلى الذين ينشدون السلام أن يوطئوا له بالرحمة. السلام في بيوتهم، وخارج أسوار تلك البيوت، وفي علاقاتهم التي لا قيمة لها بانعدام الإنسانية وانحسار الرحمة. لا سلام من دون رحمة. سيجد أي منا في الرحمة سلامه وسلام البشر من حوله. سيفتقد كل منا الرحمة تلك بانعدامها وانحسارها. ولا حاجة إلى قاعدة منطقية هذه المرة كي تؤكد ذلك التلازم.
سلوك البشر في جانبه السوي هو الذي أتاح للمناطقة (أصحاب المنطق) اهتداء سبيل لتلك القواعد. بدون البشر، وبالعدم لا معنى ولا قيمة لتلك القواعد. وجدت للحياة/ للإنسان، والإنسان كمخلوق في هيئته التي نعرف لا شيء يدل على تصنيفه من دون الرحمة تلك، وبلا شك بعقل يعي فطرة تلك العلاقات بدون حاجة إلى أسفار من تلك القواعد المنطقية وسواها.
وبدون الرحمة لا نرى الذي تنكّر لها وشذّ عنها غير حجر أو أشد قسوة، في مقاربة ومقارنة هي ذروة في إضفاء الحس والرقة حتى للحجارة: «ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإن منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله...» (البقرة: 74)، قسوة هي مقابل الرحمة، تمثّلاً لقسوة الحجارة بانعدامها وانتفائها، فيما الشاهد/ المقابل يفيض بالماء، وفي الماء رحمة في غالب وأصل وجوده.
هي الرحمة عنواننا والمضمون الدالان علينا بين هذا الخليط المتنوع والمتعدد من الخلق. من دونها تتجاوزنا الحجارة بمراحل. ثم من نحن بانعدام الرحمة؟ وحَقَّ للحجارة أن تحتل ترتيبنا.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4242 - الجمعة 18 أبريل 2014م الموافق 18 جمادى الآخرة 1435هـ
الواقع ..
إنعدام الإنسانية ..؟!