تبقى ساكنة جغرافيا الكثير من التجمعات والمستوطنات البشرية تمارس طبيعة حياتها اليومية وتتعاطى إيجاباً وسلباً مع ما تفرضه معطيات بيئتها الأم وينتج عن ذلك كله خليط من الثوابت الاجتماعية والنفسية والعاطفية والصحية وهي ما ترسم فيما بعد ما نعرفه بالثقافة البيئية، وهي المحدد الأساس في رسم صورة وهوية أي مجتمع كان، وإضفاء الصبغة الجينية التي يتفرد بها بين الحضارات والثقافات الأخرى من حوله.
لذا عندما تبرز الحاجة لدى الأفراد والمجتمعات للنزوح فهي بطبيعة الحال من الضرورة بمكان أنها تساهم في فرط العقد الاجتماعي المتسق وتعرض ثقافة تلك التجمعات السكانية إلى تغيير جذري قد يطمس الهوية الأصلية لها عوضاً عن تداعيات ذلك على المجتمعات التي تستقبل عمليات النزوح على جميع الأصعدة وخاصة مجال وخدمات الرعاية الصحية والاجتماعية.
إننا عندما نتحدث هنا عن عمليات النزوح السكاني لابد أن نشير إلى أن هناك نوعين منه، فهناك النزوح الداخلي الذي تتحرك فيه مجموعات سكانية من منطقة إلى أخرى أو من إقليم لآخر داخل الحدود الجغرافية والسيادية لدولة ما، أما النوع الثانى، وهو عندما تضطر تلك المجاميع السكانية لعبور حدود الدول متنقلة من دولتها الأم إلى دولة أو دول أخرى وهو ما يهمنا هنا.
تختلف دواعي ومبررات النزوح السكاني فقد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية أو صحية أو سياسية ومنها ما يقع في زمن الحرب أو غيرها، لكن بغض النظر عن الدواعي تلك يبقى ما يحدثه ذلك النزوح من إسقاطات صحية واجتماعية المحور الأهم لنا في استكشاف واستيعاب وأقلمة سياساتنا الصحية لتتكيف مع كذا معطيات.
إن عمليات النزوح العابرة للحدود تلك تتطلب احتياجات كثيرة في الكثير من الأحيان لا تتواجد في البلدان المستضيفة وتشكل في المقابل استنزاف للمصادر والإمكانات التي وضعت في الأساس للإيفاء بحاجات المجتمعات المحلية وبالنظر لمؤشرات النمو السكاني الديمغرافي الوطني الذي لم يضع في الحسبان زيادة سكانية كبيرة في عارض من الزمن.
لقد أشار الباحث ديفي سميث في ورقة علمية نشرتها المجلة الأميركية للصحة العامة في مجلدها رقم 90 وعددها رقم 11 إلى إشكالية العلاقة الصعبة بين العرقية والمستوى الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وتفاعلها مع الصحة من جهة أخرى، كما أن تلك العلاقة تتسم بديناميكيتها واختلافها بين البلد الأم والبلد المستضيف، وهذا ما يأخذنا لنضع في اعتبارنا طيف من العوامل عند تحليلنا للمعطيات الصحية للتجمعات السكانية المزاحة، عوضاً عن إدراك حقيقة تغير الوضع الصحي مع مرور الوقت وعلى مدى الأجيال المختلفة.
النزوح... الهجرة والصحة
لقد استهوت العلاقة بين الهجرة والصحة الكثير من علماء الاجتماع وممارسي علم الإحصاء السكاني لسنوات عديدة، ومن الأهمية هنا التطرق لتلك العلاقة في محاولة منا لفهم عمليات الإزاحة السكانية وأثرها على الصحة العامة.
عوامل عديدة أثناء عمليات النزوح أو الهجرة تؤثر في الصحة ربما أهمها يدور حول حقيقية أن الجيل الأول من المهاجرين، الذين هم في الغالب من دول نامية إلى دول الغرب، عادة ما يفرزون معدل وفيات أقل مقارنة بما هو عليه الحال في البلد المضيف، وهو ما ينتج خطأ إحصائى يعرف بـ «خطأ المهاجر الصحي» إذ عادة ما يتم اختيار المهاجر الأكثر صحة في عمليات النزوح والهجرة علماً بأن هذا النوع من الخطأ في التقدير عادة ما يكون مؤقتاً.
على الجانب الآخر عادة ما تكون الأمراض المعدية مستوطنة وشائعة في البلد الأم وتشكل عمليات النزوح وسيلة لنقل حزمة منها إلى حيث لم تكن موجودة أو كان قد تم استئصالها والقضاء عليها.
في الوقت نفسه، تشكل الفترة الأولية للهجرة في البلد المضيف بيئة زمنية خصبة لتراكم عوامل خطر صحية ومعرضة لعتلالات مثل أمراض نقص تروية القلب، أمراض السرطان، والسكر والجلطات الدماغية والربو الشعبي (بضم الشين).
كما يبرز نوع آخر من الخطأ الإحصائي عندما تعاود نسبة من تلك المجاميع السكانية عندما تتقدم في العمر أو تصاب بمرض عضال إلى بلدانها الأصلية محدثة اختلال في المؤشرات الديموغرافية الحيوية خاصة معدلات الوفاة لدى البلد المضيف يعرف بـ «خطأ سالمون».
كما تجب الإشارة هنا إلى التباين الجيني في تلك المجموعات ما ينعكس على القابلية للتعرض للأمراض المختلفة وعلى المخرجات الصحية التي قد تختلف حتى فيما بين أفراد تلك المجموعات.
أخيراً وليس آخراً، كل ما سبق من عوامل تتسق في تعقيدها إذا ما أضفنا لها الاختلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في الغذاء والعادات والسلوكيات الصحية والسكن والأبعاد النفسية.
الكم والمكان
عالمياً، بقيت معدلات النزوح والهجرة متذبذبة على مدار العشر سنوات الأخيرة، ويعزى ذلك إلى عوامل مثل اضطرابات تتنامى لدى الدول والموقع الجغرافي ونظرة الدول الأخرى في التعاطي مع مثل تلك التطورات.
لقد كان هناك ما يقارب 13 مليون نازح أو لاجئ على مستوى العالم في سنة 2002 منها خمسة ملايين من الشرق الأوسط وحدها.
التحديات الصحية
لقد أوضحت الأمم المتحدة في «دليل المبادئ للإزاحة الداخلية» سلسلة من ثلاثين مبدأ في طور التعامل مع عمليات الإزاحة السكانية الداخلية منها ما يتعلق بمرحلة الوقاية من الإزاحة أو النزوح الداخلي أو الحماية أثناءها والمساعدات الإنسانية وكذلك مرحلة العودة والاستقرار، نذكر هنا ما يتعلق منها بتوفير الرعاية الصحية المناسبة وهو المبدأ رقم 19 الذى ينص ضمناً، أولاً: يجب حصول جميع الجرحى والمصابين من النازحين الداخليين وأولئك المعوقين القدر الكامل والممكن من الرعاية والعناية الطبية التي يحتاجونها بأدنى قدر ممكن من التأخير ودون تمييز أيٍّ كان عدا ما لا تقتضيه المعايير الطبية.
وعند الضرورة يجب توفير الرعاية النفسية والاجتماعية لهم متى ما دعت الضرورة.
ثانياً: أهمية الالتفات للاحتياجات الصحية للنساء بما فيها الوصول والحصول على خدمات الرعاية والصحة الإنجابية وكذلك بذل الرعاية لضحايا الاعتداءات المختلفة بما فيها الجنسية.
ثالثاً: بذل عناية خاصة للوقاية من الأمراض المعدية مثل مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) بين النازحين.
لقد ركزت غالبية الدراسات في مجال الصحة النفسية للنازحين على اعتلال قلق ما بعد الصدمة وهو ما يعرف اختصاراً باللغة الإنجايزية (بي تي إس دي) ومرض الاكتئاب، كون تلك أكثر ما يعاني منه النازحين من اعتلالات صحية مع ما يسبق ذلك من استشعار القلق من المجهول وتحمل العبء النفسي الناتج من النزوح وحتمية الدخول إلى مجتمعات جديدة في نمط الحياة والتعايش معها، وهو ما يستدعي معه التعاطي مع مصادر الخدمات الصحية النفسية وخدمات الرعاية الصحية الأولية والثانوية وربما الثلاثية والأكثر تخصصاً.
بعداً آخر هو ما يتعلق بصحة النساء والأطفال حيث يشكلون نحو 80 في المئة من النازحين بشكل عام، وهم معرضين على وجه الخصوص لصعوبات صحية ونفسية ولهم احتياجات رعاية فريدة من نوعها تتطلب إبداع وتصميم برامج رعاية إنجابية متخصصة على المدى الطويل، أما البعد الثالث الذي ألقت عليه الضوء مبادئ الأمم المتحدة في هذا المجال فهو الصحة الجسمية والأمراض المعدية التي تستوطن، كما سبق وأشرنا إلى زيادة معدلات الإصابة لذلك النوع من الأمراض بين النازحين أما بسبب طبيعة الظروف المعيشية التي يعيشها أولئك أو بسبب نقص المعرفة والتثقيف الصحي لديهم وتبرز هنا أمراض مثل الحصبة والملاريا والتهابات الجهاز التنفسى الحادة ونوبات الإسهال والتهاب السل الرئوي والتهاب الكبد الوبائى النوع «ب» ونزلات الأمعاء الطفيلية وغيرها من العوامل الفاعلة في زيادة معدلات الوفاة أضعافاً كثيرة إذا ما قورنت بمعدلاتها الطبيعية لدى البلد المستضيف، وهنا يكمن التحدي فهذه الفئة من المرضى أو السكان الجدد في حاجة إلى برامج مسح صحية تستكشف ما لديهم من اعتلالات قد تسبب مدخلًا محتملًا لإصابة السكان الآخرين مع الأخذ في الاعتبار إلى ضرورة أن تأخذ تلك البرامج البعد الثقافي والجدوى العملية والاقتصادية التي هي في حد ذاتها معضلة كبيرة تواجهها أنظمة الرعاية الصحية على اختلاف إمكاناتها.
إقرأ أيضا لـ "محمد حسين أمان"العدد 4241 - الخميس 17 أبريل 2014م الموافق 17 جمادى الآخرة 1435هـ