تعود كثيرون في مجتمعنا على ألا يفصحوا عن حقيقة آرائهم ووجهات نظرهم تجاه مختلف القضايا والأحداث والأفكار، وتتحول آراؤهم إلى مجاملة للطرف الآخر قد تصل أحياناً إلى حد التزلف والتملق والتطبيل.
هذا ما نراه مثلاً في العلاقة بين الأفراد، حيث يقال أمامه ما يحب أن يسمعه، ولكن الرأي الحقيقي يقال في الخلف بعيداً عن الشخص المعني. وكذلك الحال في علاقة الجماعات مع بعضها بعضاً، فنسمع مدحاً لبعضهم يُقال في العلن، لكن بعد ذلك تعلن وجهة النظر الحقيقية المخالفة.
يمارس ذلك أيضاً حتى مع الجهات المسئولة، فيكيل بعضهم حتى من الكتّاب وأصحاب الرأي مديحاً مبالغاً فيه لأي قرار أو توجه رسمي يعتبرونه في غاية الحكمة، ثم يعكسون موقفهم عند تغيير هذا القرار أو التراجع عنه.
ويبدو أن هذه الحالة انتقلت أيضاً من عموم الناس إلى بعض المسئولين، ففي بعض دول المنطقة العربية لا يعبر المسئولون في معظم الأحيان عن حقيقة الأمور والقضايا ولا يفصحون بها لمواطنيهم. وما قد يقوله مسئول ما أحياناً، لا يعبّر بالدقة عن الموقف الحقيقي، وكثير من القرارات تُصنع بعيداً عن معرفة ومصارحة الناس.
هذه الحالة بالطبع تساهم في ازدواجية الرأي والموقف، ولا تفصح عن مصداقية حقيقية ورأي صريح، ما يؤدي إلى نشوء انطباعات متناقضة وتخلق تصورات مشوشة في المجتمع ككل. والأخطر من كل ذلك أنها قد تقدّم رسائل خاطئة للمسئول وللمواطن عندما يطلع على آراء صناع الرأي ويراهم يمجّدون ويبجّلون كل موقف أو قرار دون أي تمحيص أو مساءلة.
لعل من أسباب ذلك أساليب التربية الخاطئة لدى الأسرة وفي المدرسة التي تربّي الفرد على قمع تساؤلاته وآرائه، لتجعل منه إنساناً مطيعاً وتابعاً، لا يسأل ولا يناقش، ولا يبدي رأياً مخالفاً. وكذلك البيئة الدينية المحافظة التي تحوّل الفرد إلى مستمعٍ ومتلقٍ باتجاه واحد، ليس من حقه مناقشة الخطيب أو عالم الدين والاعتراض على آرائه ومقولاته.
السبب الأكثر أهميةً أيضاً هو انعدام أجواء حرية التعبير في بعض الدول العربية عن الرأي في الحياة العامة، عندما يتحوّل نقد أي مؤسسة أو جهاز رسمي أو أهلي إلى حالةٍ منبوذةٍ ومستهجنة، حتى لو كان غرض هذا النقد هو تصحيح المسار وتحسين الأداء. وهناك بالطبع كثيرون ممن لديهم مصالح ذاتية قائمة أو مرجوة تدفعهم لكيل المديح وإبداء التملق، حتى لو لم يكونوا مقتنعين بصحة ما يقولونه ويرددونه.
الخطأ الذي يقع فيه كثيرون عندما يرون أن من يعطي رأياً مجاملاً هو الشخص المخلص والمواطن الصالح، بينما من يقارب الحقيقة ويبدي صراحةً في الرأي يُنظر إليه على أنه مخالِفٌ وتسوقه الأهواء والمصالح.
إن الإفصاح عن الرأي وقول ما يراه كلٌّ منا بصدق وصراحة، هو الأمر المطلوب لأن ذلك ما يرشدنا إلى الطريق الصحيح، وما يساهم في معالجة الأخطاء ويقوّمها، أما خطابات المجاملة مهما كثرت، فإنها رغاء لا تصحّح مساراً، ولا تقدّم حلاً، بل تساهم في تضليل الرأي العام.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"العدد 4240 - الأربعاء 16 أبريل 2014م الموافق 16 جمادى الآخرة 1435هـ