يقال أن الأشياء تحدث لسبب ما، وأنك توجد في مكانٍ ما، في لحظةٍ ما، وفق خطةٍ إلهيةٍ كبرى تجعل الأشياء حولنا تترتب بطريقةٍ معينة، لأجل تلك التجربة الإنسانية الفريدة التي تظل تحدث باستمرار لهدفٍ محدد، هو ارتقاؤنا الروحي.
بعد عامٍ من أول حضور لدورة للتأمل لم استكملها آنذاك، تلقيت بريداً إلكترونياً يعرض المشاركة في رحلة علاج روحي مجانية في مدينة أكسفورد البريطانية. بدا الأمر غريباً آنذاك ومثيراً بذات الوقت، لكن الأمر احتاج فقط إلى قرار.
في الطريق إلى هناك، لم أحمل حقيقةً أية توقعات، لم أكن أعاني من أية ذكريات أو تجارب سيئة وأريد التخلص منها. لقد تحرّرت في فترةٍ سابقةٍ من كل ذلك، وكنت أعتقد أني متزنة ومستقرة وسعيدة وأعرف ما أريد، وأني أسيطر على كل الأشياء المتعلقة بي، لكن تلك الأفكار تصبح مجرد ضعفٍ آخر وأنت تزيل الستار عن ذاتك الحقيقية لتكتشفها.
كان الأمر أشبه بإعادة اكتشاف ما ظننت أني أعرفه سلفاً. اكتشفت أني كنت أعيش وسط مخاوف كبرى أظلّ أهرب منها عبر الانشغال بالحياة، لكنها كانت هناك، مخاوف تتعلق بالموت، الفقدان، السيطرة على كل شيء، الوحدة، وكنت أرتعب لمجرد التفكير في إمكانية أن أفقد أحبتي، لكن معرفة أن الموت هو فقط انتهاء صلاحية الاستخدام لهذا الجسد في هذه المرحلة، وأننا لا نملك شيئاً هنا، هذا الجسد ليس نحن، جعل من فكرة العبور أمراً أكثر تقبلاً، وأقل رعباً.
على مدى ثلاثة أيام كانت رحلة الروح تصبح أكثر إثارةً وتأثيراً، بدءاً من التأثير اللفظي في اليوم الأول وحتى اليوم الأخير الذي تضمن حواراً مفتوحاً حول تجارب المعلمين في مركز التأمل. أما اليوم الثاني فكان يوم الصمت، وهو تجربةٌ ليس معترفاً بها في مجتمعاتنا التي تنظر إلى الشخص قليل الكلام على أن به خللاً ما، ولهذا نحن نتحدث مع الآخرين طوال الوقت، حتى الوقت الذي نقضيه وحيدين فإننا عادةً نملؤه بنشاطات مختلفة، كالقراءة أو مشاهدة التلفاز. ولا يمكن أن نطلق على ذلك صمتاً، ذلك أن أفكار الآخرين تتدفق عبر هذه الأنشطة بشكل مستمر وإن لم نكن جزءاً منها، أما الصمت لساعاتٍ فإنه يفتح حواراً خالصاً مع الذات، وسلاماً قلّما أصبحنا نشعر به ونحن نعيش وسط هذا الضجيج الذي يعيق حصول أرواحنا على بعض السكون.
في المعتكف كان هناك أشخاصٌ من جميع أنحاء العالم قدموا لهذه التجربة الروحية، بعضهم من بلدان ديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان وناجحون في أعمالهم، وبعضهم كتّاب ولهم مؤلفات، آخرون موسيقيون كانت لهم حياة صاخبة فيما سبق، جميعهم تخلّوا عن ذلك من أجل تجربة مماثلة. لم يكن كل ما لديهم يعني شيئاً وهم يبحثون عن إجابة لسؤالٍ بقدر بساطة صياغته اللغوية بقدر عمقه وصعوبته: «من أنا؟»
هل أنا هذا الجسد، من هذا البلد، بهذه الوظيفة؟ لكنها ليست أكثر من عناوين واسعة لتحديد من أنا، وفق نظرة سطحية تفصل الناس ولا تجمعهم، لكن النظر إلى الآخر على مستوى الروح تجعل كل الأرواح مقبولة، جميلة وفريدة.
إقرأ أيضا لـ "مريم أبو إدريس"العدد 4239 - الثلثاء 15 أبريل 2014م الموافق 15 جمادى الآخرة 1435هـ