العدد 4235 - الجمعة 11 أبريل 2014م الموافق 11 جمادى الآخرة 1435هـ

أحلف بسماها وترابها...

يصادف الـ 30 من مارس/ آذار 2014 الذكرى السابعة والثلاثين لرحيل العندليب الأسمرعبد الحليم حافظ، وعلى رغم طول هذه الفترة الزمنية فإن عبدالحليم مازال متربعاً على عرش الاغنية العربية العاطفية. وقبل ذلك ولأكثر من ثلاثة عقود خلت، الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي جسّد العندليب الأسمر أجمل وأرق أغانى الحب والرومانسية حتى غدا واحداً من عمالقة الغناء العربي. وزاد على مطربي زمانه، أنه كان أكثر مطربي ثورة 23 يوليو/ تموز وصوتها الذي كان يشعل الجماهير ويبقي الحس الوطني متقداً وفي توق دائم إلى سماع المزيد بدءاً بـ «قلنا ح نبني وادينا احنا بنينا السد العالي»، «وانتصرنا يوم ما هب الجيش وسار» إلى آخر القائمة.

إلا أن أجمل ما تميزت به أغاني حليم ذلك التنوع والغزارة في الإنتاج حتى أضحت الواجبات الاجتماعية كالحب والزواج والبيت والحياة الأسرية أعباء ثقيلة لا مكان لها في مشواره الفني المزحوم، أو ربما درج على تسويفها إلى أجل غير مسمى وكأنها وردة لم يحن قطافها بعد فيما كانت الأيام تحصد من عمر حليم وجسده النحيل. وعند ما يتوقف ليلتقط أنفاسه يكون مشواره الفني المنطلق ومرضه الذي أصبح ملازماً له قد وسعا تلك الهوة وجعلا بينه وبين الممكنات أمراً عصيّاً على التحقيق إلا من أنصاف الحلول المؤقتة، فرضي بالحب ملهماً ومؤنساً في بعض محطات حياته على ألا تتقاطع تبعاته وأعباؤه الاجتماعية مع مشواره الفني.

هذه هي سير العظماء حتى في ذروة المرض والسقم وتقدم العمر، قدم حليم أعظم أعماله في رائعة الشاعر نزار قباني، قارئة الفنجان فأنشد «فمها مرسوم كالعنقود... ضحكتها أنغام وورود... والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا). لقد لازمتنا أغاني العندليب في فترات عديدة من حياتنا وأجملها على الإطلاق هي جنة المراهقة في «أسمر يا اسمراني» و»بتلوموني ليه» كما غنى للرئيس جمال عبدالناصر وكان بعده (الريس) اللسانَ الناطقَ للثورة وشعلتها المتقدة والمتغني بعزها وأمجادها وانتصاراتها. كان أشبه بالسد المنيع الذي يشد أزر الجماهير، ففي نكبة 1967 أقام في مبنى الاذاعة أربعة أيام متصلة وكان له حضور مميز في غيرها من الخطوب. كان الحائط المتين الذي يُسند العزائم والهمم. لقد استحق الشعب المصري بجدارة هذا الرجل العظيم، كما أن الشعب مدين له حتى هذه اللحظة بكل الامتنان، فكل الانتصارات التي حققتها ثورة 23 يوليو على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية كانت لحليم بصمة خاصة فيها أشبه بالعلامة التجارية.

لقد كانت حقبة الستينات من أجمل الحقب التي عاشها العالم العربي بعد التحرر من نير الاستعمار، فقد كانت النفوس أكثر من طيبة وشفافة لا ترى الفروق المذهبية الشكلية ولا تعرف الطائفية المقيتة. وكان من الطبيعي أن تجمع مناضلي تلك الحقبة محبة خاصة وود فريد من نوعه. لقد كانوا نخبة النخبة من أبناء أي بلد عربي، إذ لا شيء في الدنيا يضاهي ما يقدمه المرء من التفاني والتضحية بروحه في سبيل قضايا انسانية عادلة. واكبت تلك القدرات الجبارة روح وثابة وحميمية مميزة جمعت هؤلاء المناضلين. وأصدق مثال روح الصداقة والأخوة بين الرئيس عبدالناصر ومساعده عبدالحكيم عامر، وكثيرون غيرهم حتى أصبح اسم جمال ملهماً للمطربين مثل: «يا جمال يا حبيب الملايين» بل درج كثير من الضباط الأحرار على تسمية أبنائهم باسم جمال تيمناً باسم الرئيس مثل: جمال عبدالحكيم عامر، وجمال مبارك وغيرهما، كما كان للعامة نصيب في هذا الأمر .

لقد كان من الطبيعي جدا ان نسمع في كلمات حليم تجليات حرارة الحب والرومانسية المخملية تصدح سعيدة زاهية في حين، ومغموسة بلمسة الحزن في حين آخر، وذلك ضريبة المرض والحرمان مثل «أنا لك على طول خليك لي» حتى اختيرت كأغنية لبعض المشاهد في فيلم «زوجة رجل مهم» بطولة الفنان أحمد زكي والفنانة ميرفت أمين. بالمناسبة كانت أحداث الفيلم العام 1977 ابان فترة موت العندليب عبدالحليم حافظ.

كما جسد حليم معاناته بشكل درامي في فيلم «أيامنا الحلوة» وفي أغنية رسالة من تحت الماء حين أنشد: «ان كنت قويا اخرجني من هذا اليم فأنا لا اعرف فن العوم»، وفي أغنية أخرى «قدرٌ أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه»، وهي وإن غلب عليها الطابع الحزين كما أسلفت إلا انها لاقت قبولاً واسعاً في نفوس الجماهير الغفيرة من محبي حليم ومستمعيه امتناناً منهم لفنه العظيم المتجدد.

لقد لازم العندليب جيل الخمسينات ثم واكبناه في أغانيه في الستينات وصولاً إلى السبعينات فتركت طابعاً خاصّاً في نفوسنا حتى غدا حليم ابن الحي الذي يحكي مشاعرنا ويترجم أحاسيسنا في تجارب الحب التي مررنا بها، فكان لسان حالنا الذي يقول: «بحلم بيك انا بحلم بيك». اما النخبة من طلبة البحرين في القاهرة وغيرهم من العرب من جيل السبعينات، فقد حظوا بنصيب الأسد، ففي عيد شم النسيم من كل عام في مصر وتحديداً في مارس يتحف العندليب محبيه في كل العالم بأغنية جديدة تلامس قلوبهم وتطرق أوتار عواطفهم، فتنبلج اشراقات السعادة في نفوسهم. وتظل أغانيه تصول وتجول ونسمعها على مدى أربعة أشهر متصلة حتى تقرع الامتحانات الأبواب وصولاً إلى نهاية العام الدراسي وكأنها جزء من الواجبات الروحية القلبية في موازاة الواجبات الدراسية العقلية، أو كما يذهب البعض إلى القول لا تنصلح الثانية من دون الأولى.

الجميل أن العندليب درج على أن يفتتح أغنيته الجديدة من كل عام بالمقدمة العظيمة «أحلف بسماها وترابها... أحلف بدروبها وأبوابها... أحلف بالقمح وبالمصنع... أحلف بالمدية وبالمدفع)، ثم يصدح عالياً من كل قلبه وجوارحه: «باولادي بايامي الجاية ما تغيب الشمس العربية طول ما انا عايش فوق الدنيا». وقد حلف عبدالحليم أن يغنيها ويغنيها حتى يتحرر كامل تراب سيناء. ومن دون أن يقصد أصبحت هذه المقدمة كالسلام الوطني أو كما لو كانت الجزء الخفي غير المسموع في صلب أغانيه الجديدة ومكملة لها. وتلك ميزة اختص بها عبدالحليم دون مطربين كثر بأن جمع الحب بالوطنية فحلق فوق السحاب وبقي حتى الساعة ملهماً للمحبين والعشاق والوطنيين والعروبيين من كل الأجناس والأعمار شأن المطربتين فيروز، وأم كلثوم. لقد عاش العندليب دون أن يكمل عامه الـ 48 لكن في أقل من نصف هذا العمر قدم اكثر من 231 أغنية وستة عشر فيلماً سينمائيّاً تدرجت بين العاطفية والوطنية الحماسية، حتى أنه أهدى النيل أجمل أغانية في «يا تبر ساير بين شطين يا حلو يا اسمر» وهي من أجمل ما أحببت من أغانيه وكنت اعتقد حتى وقت قريب انها إحدى أغاني حليم العاطفية!

تلك هي صفات العباقرة والعظماء ما أن يمتهنوا شيئاً حتى يصبح عظيم القيمة من جميع الوجوه حال الجوهرة المتلألئة الوهاجة، كل زاوية منها تناظر الأخرى أو تزيد عليها حتى تكاد تجزم بأنك فى نهاية الأمر ترى وتشم وتسمع وتتذوق مقطوعة جميلة عنوانها: «أضواء في حلة براقة».

العدد 4235 - الجمعة 11 أبريل 2014م الموافق 11 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:48 ص

      حليم زمن الحب الجميل
      ستظل هذه الشخصية ملء الاسماع والقلوب حتى بعد هذه السنوات الطويلة من غيابه ويكفي انه الشخصية الوحيده من بين جميع الفنانين الذي انتجت له المئات من البرامج والحلقات التوثيقية التى تنتج في كل عام لتحليل ظاهرة عبدالحليم حافظ

    • زائر 1 | 10:41 م

      آدم

      الله يرحمه ويغفرله ويسكنه الجنه

اقرأ ايضاً