العدد 4235 - الجمعة 11 أبريل 2014م الموافق 11 جمادى الآخرة 1435هـ

البلاد القديم: تأسيس العاصمة الإسلامية الأولى في البحرين

في الفصل السابق تناولنا هوية البحرين الدينية في القرن التاسع الميلادي، وذلك اعتماداً على ما عثر عليه من آثار في البحرين. وربما يرى البعض أن هناك العديد من الأدبيات التي تناولت هوية البحرين الدينية منذ فجر الإسلام، إلا أنه عندما نرجع لهذه الأدبيات نلاحظ أن الحديث فيها إما حول البحرين الكبرى أو حول هوية قبيلة عبدالقيس بصورة عامة، إلا أن جزيرة أوال يغيب ذكرها في تلك الأدبيات، ولا يظهر لها ذكر إلا في قرابة القرن العاشر الميلادي، أي مع السيطرة السياسية القرمطية على البحرين. ومن هنا تأتي أهمية هذه السلسلة التي نحاول فيها أن نبني نموذجاً لتاريخ البحرين في تلك الحقبة التي لا تذكر فيها جزر البحرين في الأدبيات المختلفة، معتمدين في ذلك على نتائج بعثات التنقيب الآثارية المختلفة، ومطابقة ذلك بما يوازيه من روايات تاريخية إن وجدت.

يذكر أن أهم الأدبيات التي سردت تاريخ جزر البحرين في فترة قبل الإسلام وفجر الإسلام، هي تلك الأدبيات التي تناولت تاريخ المذهب النسطوري؛ حيث ذكر فيها جزيرة ماشماهي/ ماشماهيج أي سماهيج أو جزيرة المحرق حالياً، والتي كانت تعتبر المقر الرئيسي لجماعات اعتنقت المذهب النسطوري، وقد سبق لنا أن فصلنا ذلك في سلسلة سابقة. إلا أن الدراسات الآثارية في جزيرة المحرق لم تُظهر أي دليل آثاري يدل على وجود الديانة المسيحية فيها قبل الإسلام، إلا أن تلك الدراسات تشير بوضوح لوجود استيطان على جزيرة المحرق في العديد من المواقع والذي يبدأ من حقبة قبل الإسلام، وغالبيتها يعود للقرنين السابع والثامن الميلاديين، ومنها ما يشير للاستيطان في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين (Carter and Naranjo-Santana 2011, pp. 39-40).

بناء أول عاصمة إسلامية

نتائج التنقيب في المواقع الإسلامية تشير إلى أن جزيرة المحرق كانت أقدم المناطق الإسلامية في البحرين، إلا أن تلك النتائج لا تدل على أن المحرق كانت عاصمة البحرين الإسلامية الأولى؛ ففي قرابة منتصف القرن الثامن الميلادي تأسست البلاد القديم، ومن خلال ما عثر فيها من آثار، يتضح أن قرية مبنية قد أسست في هذه المنطقة، وأن سوقاً مركزية قد أنشئت بالقرب من مسجد الخميس، منذ تأسيس هذه القرية (Carter 2005). وفي ضوء تلك النتائج، يستنتج Carter أن البلاد القديم كانت عاصمة البحرين منذ تأسيسها في القرن الثامن الميلادي (Carter 2005). وتشير بقية النتائج إلى أن هذه القرية كانت تدين بدين الإسلام حيث عثر بالقرب من مسجد الخميس على قطعة فخار، يعود تاريخها للقرن الثامن الميلادي، وقد نقش عليها جزء من البسملة (Insoll 2005, p.331).

الصناعات في البحرين القديمة

تدل نتائج التنقيب الآثارية في منطقة البلاد القديم على تعدد الحرف والمهن والصناعات في البحرين القديمة، منذ القرن الثامن الميلادي. ولم تتفرد هذه العاصمة لوحدها بهذه المهن فقد ظهرت هناك قريتان أخريان، في عالي وفي باربار، وقد عمل سكانها أيضاً بالحرف نفسها، إلا أن تنوع التجارة وتعدد العلاقات التجارية الخارجية جعل من منطقة البلاد القديم تستحق أن تلقب بعاصمة البحرين. ومن ضمن الصناعات التي كانت توجد في البلاد القديم قديماً، يرجح وجود صناعات نادرة ونالت شهرة في تلك الحقبة بل وذكرت في بعض الأدبيات المتخصصة، وهي تحضير الصبغة الأرجوانية، وصناعة أظفار الطيب.

تحضير الصبغة الأرجوانية

من ضمن تقارير البعثة البريطانية التي نقبت في البلاد القديم، بقيادة Timothy Insoll تقرير Smith حول بقايا الحيوانات (باستثناء بقايا الأسماك) في منطقة سوق الخميس. وقد كشفت هذه الدراسة عن وجود بقايا كثيرة للقوقعة من نوع «الكوز» Hexaplex kuesterianus في جميع الحقب الإسلامية الممتدة من القرن الثامن وحتى القرن الرابع عشر الميلادي. وقد كانت الغالبية العظمى للقواقع مكسرة ما يرجح أنها لم تكن تستخدم كغذاء، إلا أن خيار استخدامها كغذاء لم يستبعد كلياً، إلا أن Smith رجح أمراً آخر، وهو استعمالها لاستخلاص الصبغة الأرجوانية منها (Smith 2005, p.222). هذا وقد ذكر كل من Smith وInsoll أدلة تدل على استعمال الصبغة الأرجوانية في البحرين حيث ذكرا عدداً من قطع الفخار المغطاة بطبقة قشرية سميكة عليها بقايا اللون الأرجواني وهو ما اعتبراه دليلاً على تحضير الصبغة الأرجوانية واستعمالها في البحرين في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين (Smith 2005, p.222) و (Insoll 2005, p.327 - 328). يذكر أن تحضير هذه الصبغة ليس بالغريب في منطقة الخليج العربي، فقد سبق أن رجح Eden أن موقعاً أثرياً في شبه جزيرة قطر، يعد جزءاً من إقليم دلمون ويعود لحقبة باربار، يعد موقعاً لتحضير الصبغة الأرجوانية (Eden 1987). وقد سبق أن تناولنا في سلسلة دراستنا حول الصناعات الصدفية في دلمون هذه النقطة بالتفصيل وأشرنا لعدم وجود دراسات تفصيلية حول بقايا الأصداف في البحرين.

صناعة أظفار الطيب

من المهن النادرة أيضاً، والتي كانت معروفة في البحرين منذ القرن الثامن الميلادي، مهنة تحضير أظفار الطيب. ولا يوجد شك في أن هذه المهنة كانت رائجة في البحرين حيث يوجد دليل أدبي عليها، بالإضافة للدليل الآثاري؛ حيث يوجد ذكر لهذه الصناعة عند كتاب متخصصين عاشوا في القرن التاسع الميلادي. والظفر وجمعها أظفار هو غطاء شبيه بالقرص الدائري تستعمله الحيوانات الرخوية التي تعيش في القواقع وذلك لغلق فتحة القوقعة، ويعرف الظفر في الكتب العلمية باسم operculum. ومن بين أنواع الأظفار التي اشتهرت على نطاق واسع هي: ظفر حيوان الكوز، وكذلك أنواع أخرى من عائلة الكوز muricidae نفسها والتي تتواجد على سواحل الهند وسواحل الخليج العربي. وقد عرفت أظفار الكوز باسم «أظفار الطيب»، وتستخدم هذه الأظفار كنوع من الأدوية؛ حيث يتم حرقها والتبخر بدخانها. وهذه الأظفار مازالت معروفة على سواحل الخليج العربي، حتى أن الكوز، أي القوقعة التي يؤخذ منها الظفر، مازالت تعرف باسم لون ظفرها فهناك «كوز بو ظفر أسود» و «كوز بو ظفر أحمر».

وقد سبق أن ذكرنا أنه تم العثور على العديد من بقايا القواقع، التي تعرف بالكوز Hexaplex kuesterianus، في جميع الطبقات الآثارية في المنطقة القريبة من مسجد الخميس في البلاد القديم. والمرجح أن البحرين اشتهرت قديماً، ربما منذ القرن الثامن، كمصدر لنوع من»الأظفار» الذي يستخدم كدواء يتبخر به، ويرجح، أيضاً، أن مصدر هذه الأظفار هو «الكوز» Hexaplex kuesterianus. يذكر أن هناك دليلاً أدبياً على رواج هذه الحرفة في البحرين؛ حيث خص يحيى بن ماسويه (777م – 857م) أظافر البحرين بالذكر لأنها الأشهر والأكثر جودة، ونص ما جاء في كتاب ابن ماسويه «جواهر الطيب المفردة بأسمائها وصفاتها ومعادنها»: «الأظفار أجناس فمنها الماشماهية يؤتى بها من البحرين وهي أجودها تدخل في الدُخَن، ومنها المكية وهي أدناها... وهي قشور دابة في البحر بمنزلة الأصداف ملتصقة بلحم فتنصل في مواضعها وهي إلى الحمرة، منها ما تكون بساحل جدة وناحية البحرين وهي تعالج بعد سلقٍ بشيء تغمس فيه فتطيب» (ص 42 بحسب ترقيم مخطوطة مكتبة جامعة لايبزيك www.refaiya.uni-leipzig.de).

ولا نعلم هنا على وجه التحديد إذا كانت صفة «الماشماهية» هي نسبة لماشماهي أو مشماهيج وهو اسم جزيرة المحرق أو جزر البحرين في تلك الحقبة، فإن كان كذلك فإن هذه الأظفار كانت تحضر في جزر البحرين قديماً.

العدد 4235 - الجمعة 11 أبريل 2014م الموافق 11 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً