من منطقة الخليج العربي، إلى شمال ووسط إفريقيا، إلى منطقة الهلال الخصيب، وصعوداً حيث العراق وآسيا الوسطى، حتى وسط وجنوب وشرق قارة آسيا. لندقّق جميعنا في مواقع تلك الدول والمناطق الشاسعة، وأين تقع على الخارطة، كي نكتشف جميعنا هذه الحقيقة الجغرافية والديمغرافية والثقافية: إنها المناطق الأقدم في التاريخ، بأديانه وأعراقه وجماعاته المتنوعة. في تلك المناطق، ظهرت وانتشرت الهندوسية والبوذية، وظهرت الأديان الإبراهيمية: اليهودية، المسيحية والإسلام.
أكثر من ذلك، فقد تشققت مجتمعات تلك الدول والمناطق وتفرّعت، فأنتجت أعراقاً وسلالات وإثنيات وأصلاباً جديدة، تداخلت فيها دماء القادمين على وقع الهجرات الاختيارية والقسرية من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، نتيجة البحث عن الماء والكلأ في الأولى، أو نتيجة الصراعات والحروب كما في الثانية.
وإذا ما استثنينا المسيحية، التي يدين بها اليوم ملياران ومئتا مليون إنسان، كونها نشأت في هذه المنطقة، لكنها سرعان ما انتقلت إلى أوروبا بتبنِّي الإمبراطورية الرومانية لها، سنبقى في ذات الوعاء الأكبر للأديان والأعراق، وما نتج عنهما من مذاهب ودماء: إنه الشرق الممتد، من الشرق الأدنى حتى المغرب العربي.
هنا تظهر لنا حقيقة المشكلة التي نعاني منها من رأسنا حتى أخمص أقدامنا، وهي الصراعات الطائفية والعرقية. فلأن الشرق هو حامل الأديان التاريخية كما أسلفنا، وتكوَّن لحمه على عظام الأقوام والشعوب والقبائل المختلفة، فهو المكان الأكثر قابلية للانشطارات، ولنمو الهويات الفرعية المنفلتة، على حساب الهويات الجامعة.
وإذا ما وُجِدَ النظام الاجتماعي والديني الذي يمكنه ضبط التنوع (افتراضاً)، إلاَّ أنه يبقى محاطاً بخطر داهم آخر وهو التوظيف السياسي لتلك التناقضات الدينية والعرقية، عبر تثويرها وجعلها رايةً في معارك سياسية من أجل السيطرة على الحكم وجلب النفوذ والثروة: حركة باطل يراد بها باطل. دعونا نضرب على ذلك أمثلة كي يتضح المعنى.
مَنْ منا لم يسمع بمجازر بورما. ما يُتداوَل في الإعلام، أن تلك المجازر تجري على أساس ديني، حيث الأكثرية البوذية تقتل الأقلية المسلمة، لكن الحقيقة المحضة ليست كذلك. فدراسة الجغرافيا البورمية (أو الميانمارية) ستمنحنا تصورات مختلفة، تفيد بأن هناك عوامل أخرى (غير الصراع الديني) أدت إلى مثل تلك المجازر.
فما دمنا نتحدث عن أكثرية وأقلية، فهذا يعني أننا نتحدث عن غالبية أراكانية بوذية، وأقلية روهينغية مسلمة. بمعنى أن الأمر مرتبط برغبة في «الاستحواذ» لدى أكثريات عرقية وطمر «التطلع» لأي أقليات أخرى قد تتعاضد وتتحد من أجل البقاء، وفي نفس الوقت ما يمثله التنافس بين الأراكان/ الروهينغا كصراع إثني بحت.
إن العامل الاقتصادي يبقى عاملاً مهماً في تثوير الصراعات العرقية في ذلك البلد. فإذا ما نظرنا إلى مناطق الشان والكاشين «الغنيّة بالخشب والأحجار الكريمة والمعادن، والمخزون المائي»، كما يشير إلى ذلك الباحث في جامعة «هونغ كونغ» رينو إيغريتو، سنرى أن الأكثرية البامارية، تقاتل من أجل تلك الثروات لتقوية اقتصادها ولكن براية إثنية. إنه خداع بيِّن.
وإذا ما انتقلنا إلى مثال آخر وهو العراق، سنجد أن الصراع في بدايته كان سياسياً، حينما جاء الاحتلال الأميركي في العام 2003، وأزاح طبقةً سياسيةً «مدينية» حاكمة، ليأتي بطبقة سياسية «دينية»، شاءت الأقدار أن ينتمي سواد الطبقتين إلى طائفتين متغايرتين، الأولى سُنِّيَّة والثانية شيعية. لكن أصل الموضوع ليس دينياً بل سياسي.
وفي التاريخ الأبعد حيث أوروبا، كان الحال كذلك. فلا يعتقد أحدٌ بأن إرغام الساكس وأجزاء من شعوب اسكندنافيا والبلطيق على اعتناق المسيحية إبَّان الحكم الشالماني كان من منطلقات دينية بل سياسية توسعية. وهذه المنطلقات هي ذاتها التي دفعت البابا كليمنس الثامن في القرن السادس عشر لأن يرفض قرارات المصالحة مع الهراطقة في فرنسا، خوفاً على نفوذ البابوية ومركزها.
هذا الأمر يجب أن يُدرَك، وأن لا يمر على الشعوب والجماعات والأحزاب بشكل سهل وتضليلي. لذا، فإنه وأمام هذه النقطة، يجرنا الحديث إلى الأداة الناعمة في تعميق خطاب التحريض المذهبي/ الإثني، والمتمثلة في الإعلام الموبوء، الذي يقوم بتأليب المذاهب والطوائف والعرقيات على بعضها، بغية جعل خصومتها رأياً عاماً. فالسياسة تتحرك بشكل مزدوج في تثبيت طموحها في التوسع والاستئثار بالثروة، عبر اعتمادها على الإعلام في تشويه صورة الخصم (الذي قد يكون شعباً/ ديناً/ مذهباً) وجعله مداناً.
وقد شَهِدَت حوادث سياسية كثيرة في العالم على ذلك، وبالتحديد في الدول التي شهدت صراعات. وقد تساوت الجريمة عند القانونيين، بين الحاكمين الطغاة والإعلاميين المرتزقة المساندين لهم. الجميع يتذكر إذاعة دي ميل كولين في رواندا، التي اتُهِمَت ومعها صحافيوها الأربعة، أمام المحكمة الدولية، بالإضافة إلى وزير إعلام سابق «بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية». هذا الأمر تكرّر أيضاً في كينيا لذات الأسباب.
خلاصة القول، أن الشرق مؤهل لأن ينقسم، لكن انقسامه يبقى مصطنعاً (في الغالب) على أثير السياسة ونهب الثروات والرغبة في التسلط، تسانده في ذلك أقلام وقراطيس التحريض الإعلامي. ويبقى التنبيه بشأن ذلك واجباً لا ينبغي النظر إليه على أنه مجرد «كتابة على الماء» بل إنه حفرٌ في صخر، سيُؤسس إلى ثقافةٍ ستسود ولو بعد حين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4233 - الأربعاء 09 أبريل 2014م الموافق 09 جمادى الآخرة 1435هـ
طلب دونه النجوم
مهما تكن الأسباب فالعامل الديني أحدالأسباب؛ أو أحد الذرائع. و في الحالين يجب إصلاح أو سد أي ثغرة قد يأتي منها الخطر ؛ أو قد تكون هي الخطر إذا ما اُستغلت الشعوب المسكينة.
بالعربي الواضح : الشعوب العربية واقعة تحت تأثير علماء يقولون بتكفير غيرهم من المخالفين ( و لا عزاء و لا تأثير للمعتدلين من العلماء، فالغلبة و القول الفصل للمكفرين). يجب مطالبة علماء التكفير بإصدار قرارات عدم التكفير؛ أو كف الألسن و الأقلام عن التكفير (من الطرفين). و لكنه طلب دونه النجوم!
يجب علينا احترام ثقافة الاختلاف وتقبلها
فكل من له رأي ومعتقد ومذهب يختلف معك له الحق بذلك،ويستوجب عليك القبول به شريكا في بناء المجتمع....أما القول بأنك الأفضل أو الأصلح فهذا خطأ جسيم،لأن الطرف الآخر سيقول نفس الشئ. أصلحوا عقولكم المتهالكة والمتشربة بجيف الفكر،واعلموا بأنكم بذلك تشتتوا الهمم لبناء الوطن....كل من يشحد الهمم بهذا الإتجاه عدو للوطن. ألم تسمعوا بفرق تسد؟
الحواب نعم
يعني قصدك من هذا المقال ان حكومه البحرين طائفيه ؟
احسنت
مقال رائع
الاختلاف سنّة الله في خلقه ولكن استغلال الخلاف من اجل الفتن الطائفية من صنع المتصيدين
بعض بني البشر يريد الارتزاق ولو من دماء الناس فلا يهمه من اين يأتي المال ولو كان مغموسا بدماء اخوته من بني البشر.
وقد وجدت الدول الغربية الطامعة في الاموال بيئة خصبة بين المسلمين لبث سمومهم واستلاب اموالهم عن طريق تصدير السلاح لهم
متابع . . . سؤال
هل معنى ذلك أن عدم انجرار المجتمع المسيحي ( خاصة في الغرب ) نحو الطائفية سببه عدم وجود التحريض الإعلامي الطائفي عندهم ؟ بحيث لو وجد هذا التحريض لعادت الحالة الطائفية المقيتة إليهم ؟ أم أن السبب هو أن ثقافة تلك المجتمعات تغيرت و صارت متسامحة بحيث ما عاد يؤثر فيها أي تحريض طائفي تجاه الآخر ؟ ما رأيكم ؟ . . . .
متابع . . . أقوال جميلة
ابن سينا : بُلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم ......... علي الوردي : أينما توجهت في أنحاء الأرض ، وجدت الناس مطمئنين لعقائدهم ، و يريدون من الأمم الأخرى أن تتبع دينهم الذي لا حق سواه ............ محمد كريشان: شيئان نجيدهما نحن العرب كما لا تجيدهما أمة أخرى: شيطنة من نختلف معه و التبرير لمن نهواه، و كلاهما نفعله بشطط معيب .............. فيصل القاسم : لولا السياسة لكانت نسبة الخلافات بين الناس أقل بمئات المرات. لكم ألبسوا الصراعات السياسية أثواباً دينية وطائفية ومذهبية وقبلية كي يحققوا مآربهم