لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال إدانة الأديان والمذاهب نتيجة «شذوذ» أحد منتسبيها. بل ولا يمكن إدانتها حتى بِنصٍّ ديني مختَلَف عليه، جاء مرسلاً ضعيفاً. وأكثر من ذلك، خطأ عدم وضعه في سياقه التاريخي والتطوُّري، الذي صاحبه، وأفضى إلى فرضية ونتيجة مختلفة تماماً عن منبته، ما أكثرها من شواهد، حين يتم قياسها بالقاعدة «الزمكانية»

ارتبطت كلمة الشُّذوذ بالمثليين جنسياً. والحقيقة، أن ذلك تضييق لمعاني الكلمة. فأصل تفسيرها أن «شَذَّ يَشُذُّ ويَشِذُّ شَذًّا وشُذوذاً: نَدَرَ عن الجُمْهورِ». «والشُّذَّاذُ: القُلالُ» كما جاء في «القاموس المحيط». و«شَذَّانُ الناسِ أيضاً: مُتَفَرِّقوهَمْ» كما في «الصحاح في اللغة».

بدأت بهذه المقدمة، كي أضع نقطة على حرف. ففي خضمّ ما يجري من صراعات على أساس ديني ولَّدتها بالأساس خلافات سياسية، يظهر لنا دور «الشَّاذين دينياً» وليس «جنسياً» من الذين يسكبون زيتاً على النار، فيزيدون الهشيم اشتعالاً ويُوغرون القلوب حقداً وضغينةً على الأغيار، لا هَمَّ لهم إلاَّ إخراج السيوف من غمودها كي تتلاحم.

لكن، ما يجب أن يُدرَك في هذا الأمر، أن أولئك ما هم إلاَّ «شواذ». وإذا ما علمنا أن «الشُذوذ» هو ما نَدَرَ عن الجُمْهورِ، وأنه القلال، فهذا يعني أنهم ليسوا الكثرة، وهنا مركز الفكرة، التي يجب على الجميع أن يتنبَّه لها، ونحن نعيش أزمات دينية مذهبية كريهة، فدعاة الصراع المذهبي هم القلة، والأغلبية هي للاعتدال. دعونا نضرب أمثلة على ذلك.

عندما دعا قس كنيسة دوف وورلد أوتريتش في غرينسفيل بولاية فلوريدا الأميركية المأفون تيري جونز إلى حرق القرآن الكريم، انبرى العالَم المسيحي وقيادته إلى مواجهة ذلك السلوك المقيت. الفاتيكان، وهو أعلى هيئة دينية مسيحية في العالم، والمكان الذي يهفو إليه مليارا إنسان ندَّد بعمل جونز واعتبره «متعارضاً تماماً مع الإيمان المسيحي».

رئيس أساقفة لاهور بباكستان لورانس سالدانها أدان العمل وطالب باعتقال جونز. الكاردينال عمانوئيل دلي رئيس الطائفة الكلدانية، ومجلس الطوائف المسيحية في العراق استنكر العمل، معتبراً أن جونز لا يستحق لقب قسيس. معاون بطريرك الكلدان شليمون وردوني أدان العمل وقال: «هي بغض» وأن «قداسة البابا وجميع الأساقفة في أوروبا أدانوا وشجبوا هذه الأفعال». رئيس أساقفة كركوك لويس ساكو قال الشيء نفسه.

لم تقتصر الإدانة الصريحة على القيادات الروحية للمسيحية في العالم، بل وصلت حتى إلى القيادات السياسية في تلك البلدان التي تعتبر تاريخياً وعاءها. الولايات المتحدة اعتبرته «عملاً مشيناً ومخزياً». المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اعتبرت العمل خاطئاً. الأمين العام للحلف الأطلسي أندرز فوغ راسموسن عبَّر عن استيائه. منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون أكدت «احترام كل المعتقدات الدينية».

إذاً، لم يبق لأحدٍ حجة، لأن يدين المسيحية بجريرة ذاك القس المغمور كما وُصِفَ في واشنطن. هذا الأمر يجب أن ينسحب على غيره من الأفعال التي قد تصدر من جميع الأديان والمذاهب تجاه بعضها. فعندما يصدر عن أدعياء التديُّن في الإسلام كلامٌ سفيهٌ تجاه ديانة أو مذهب، فيجب أن تُطبَّق عليه قاعدة «الشَّواذ». وجميعنا يتذكر، أنه وعندما قام أحدهم بحرق الإنجيل، اعتقِلَ هو ونجله وتم الحكم عليه بالسجن لمدة أحد عشر عاماً، وعلى نجله ثمانية أعوام، ولاقى عملهما استنكاراً من المشيخات الإسلامية المرموقة.

لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال إدانة الأديان والمذاهب نتيجة «شذوذ» أحد منتسبيها. بل ولا يمكن إدانتها حتى بِنصٍّ ديني مختَلَف عليه، جاء مرسلاً ضعيفاً. وأكثر من ذلك، خطأ عدم وضعه في سياقه التاريخي والتطوُّري، الذي صاحبه، وأفضى إلى فرضية ونتيجة مختلفة تماماً عن منبته، ما أكثرها من شواهد، حين يتم قياسها بالقاعدة «الزمكانية».

كانت البابوية المسيحية، وقبل قرون، تشنّ حرباً شعواء على الطوائف المسيحية الأخرى، التي تعتبرها مجرد «هرطقة». المسيحية اليوم، ليس لديها مشكلة مع البروتستانتية والمورمونية، ولا مع أيٍّ من المذاهب المسيحية الأخرى، رغم أن حربها الأولى كانت مسنودةً بنصوص، فسَّروها على أنها إجازة لهم: أرغمكم على الدخول في الدين كما ذُكِرَت في إنجيل لوقا. إذاً، تطوُّر الفهم الديني مستمر، ومحكوم بالواقع المُعَاش.

بل إن الواقع المسيحي تطوَّر إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد ذكر المفكر المغربي والسفير السابق لبلاده في لبنان علي أومليل أن الفيلسوف الفرنسي الكبير باييل كَتَبَ: «أن الذين يقومون بالدعوة أو الدعاية للإسلام في بلدان مسيحية لا ينبغي قتلهم أو التنكيل بهم، أو نفيهم، بل مواجهتهم بالحجة والحوار، الشرط أن لا يُعكِّروا النظام العام». لاحظوا أن هذه الدعوة كانت في أتون الصراع، الذي كان مشتعلاً كون باييل وُلِدَ في العام 1674.

وقد وجدنا الأمر ذاته في البلاد الإسلامية، حين تحوَّل المسيحيون إلى مواطنين كغيرهم من المواطنين المسلمين، لا يضطرون إلى دفع جزية، ولا يتمايزون عن غيرهم في شيء، سوى في الطقوس الدينية. وقد شَهِدَ على ذلك أكثر الدول تواجداً للمسيحيين، وهي العراق وسورية، قبل أن يأتي الفكر المتطرف، ليفرض ما لا ينسجم مع العصر من رؤية دينية.

في المحصلة، فإن الشُّذوذ هو مرض. ومادام كذلك، فإن علاجه يبقى أمراً ضرورياً كي لا يستفحل. وعلى الجميع (وليس المختصين فقط) أن يفرضوا عالماً أكثر أمناً وأكثر تسامحاً وأكثر مساواة في بيوتهم ومدنهم وبلدانهم، بقبولهم لبعضهم، واعتمادهم على خط الاعتدال والرأي الغالب عليه، كي يضمنوا لأبنائهم مستقبلاً وادعاً. فـ «المدينة العظمى هي التي يسير فيها الذئب والحمل والنمر والجدي معاً» كما كان يقول الشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة.