لا اكفُّ عن الكتابة عن المدن، على رغم أنني أحد أكثر البشر الذين يتوجّسون منها، ومن الذين يجدون في بعض المدن من يتتبّعهم للاغتيال. ثمة مدن تغتالك بمجرد أن تطأ أرضها! تغتالك بذلك الشعور الذي يرافقك؛ قلقاً. وتوجّساً، واضطراب نفس، ورجرجة روح.
***
إذا اهتديت في مدينة ولم تجد إشكالاً في الوصول إلى الأماكن المحبَّبة بكل يُسر وسهولة، فثقْ أن المدينة مازالت تحتفظ بفطرتها وعفويتها. إذا حدث العكس فأنت في حضرة الضَلال.
وكلَّما تعقّدت المدن، كلما كشف ذلك عن عُقَد مزمنة لدى من اقترحها وخططها ونفّذها، وكذلك بعض سكّانها المتصالحين معها حدَّ الهوَس!
***
المدن التي تأنس إليها وتألفها وتحتل جزءاً من ذاكرتك وترافقك أنّى ذهبت، وتُسقط هيبة مدن أخرى عرفتَ أمام المقارنة واستدعائك لها، لا تتردّد عليها كثيراً كي لا تسقط هيبتها، ولكي لا تفتقد مساحة الاستئناس تلك والأُلْفة، ولكي تظل ذاكرتك طازجة كلما جلْت عن طريق الخطأ في مدن مُستعمَلَة في كل تفاصيلها، حتى الهواء!
***
لن تجد رِيفاً يخرّب عليك بحثك عن الفطريّ، وذهابك وتقصّيك البساطة في لهجات الناس وملامحهم وطِيبتهم والبكارة في المكان، وندرة التوحّش. لن تجد مدناً مسكونة بالريف؛ وإلا لن تكون مدناً. المدن بتعريف بسيط: امتداد يحاول ألاّ ينتهي ويتطاول، ومع ذلك الامتداد والتطاول يمكنها أن تستلبك وتعبث بطمأنينتك، وتضعك على شفا حفرة من الضياع والاضطراب.
***
لا اهتداء في المدن. وظيفة المدن التيه والضياع. لهاثك المستمر لاكتشاف غموضها. الريف واضح الهوية والملامح والتفاصيل. المدن على النقيض. كلما تهْت فيها. حاولت اكتشافها. طلعتْ عليك بضواحٍ ستأخذك تمويهاً وخداعاً إلى الريف الذي تحب. لن تجده هناك. سترى أوصالاً مقطّعة للمدن تُركت لزوم الفخ كي يتسع ويمتد!
***
والمدن لا تنام لأن وظيفتها التربّص. كل زوّارها متهمون حتى يغادروا! ومع كل عودة لها هم متهمون. والمدن لا تسأم من إعادة إنتاج وتدوير زيْفها. هي على صلة به. تعتقد أنه واحد من أسباب وأسرار بقائها. بقاء أن تكون نتوءاً في طرق العابرين إليها. إلى محاولة اكتشاف أسرارها، وهم الذين يتوهّمون أنها الفضيحة. ومعهم حق. المدن فضيحة منظّمة!
***
أخطر ما في المدن أنك لا تطمئن من الداخل إليها. كل مظاهر الضبط لا تكفي. القوانين أيضاً كالأخطبوط له أيدٍ تحمي الكبار هناك، تبطش بالذين تراهم صغاراً هنالك! كل ما نعرفه من بديهة في الحياة: حين لا تطمئن فأنت في الجحيم مع فارق أنه جحيم ببنية تحتية أنتَ جزء من تفاصيلها؛ لا أكثر ولا أقل!
***
المدن بصيغتها التي نرى ونشهد ونعرف ونخبر، احتيال لتذويب ما تبقّى من فطْرة وعفوية وثقة واعتماد. لا شيء من ذلك في مدن اليوم. ستجد النقيض. ستجد كل ما يُورد المهالك إنْ عاجلاً أو آجلاً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4228 - الجمعة 04 أبريل 2014م الموافق 04 جمادى الآخرة 1435هـ
Abbas
سلمت يداك ايها الكاتب الكبير ...... خيالك بمساحة مدن كبيرة... جمالية الصور كجمال اروع المدن...... لا اكتفي بقراءة مقالك مرة واحدة ...
للذين هجروا الوطن اشتقنا لكم
مع أنني متعاطف مع من تركوا البحرين خلال الثلاث سنوات الفائته الا انني متيقن انهم لم يعوا تجربة من سبقهم مع مدن التيه فغادروا اليها دون مبرر مقنع ودون تخطيط عموما الله يرجههم الى ذويهم سالمين