تزدحم في الأول من أبريل/ نيسان من كل عام، صفحات الصحف اليومية بالتعليقات والمقالات التي تتناول الكذب كظاهرة مجتمعية، ويلامس معظمها واقع الكذب على سبيل الدعابة والنكتة، فيما يذهب البعض إلى التحذير من مخاطرها، ويستثمرها البعض الآخر في إيصال رسائل موجهة إلى من يهمه الأمر، لإثارة الانتباه إلى مشكلة أو قضية ما في حاجة إلى معالجة وحل. كما تستغلها قلةٌ من الكتاب للتجريح الشخصي والكسب الرخيص.
إن ما جرى الاطلاع عليه من مقالات لا تلامس في غالبيتها جوهر الكذب، كمشكلة اجتماعية وكوسيلة لقلب الحقائق وتبييض وسائل الجريمة وشرعنة أهدافها واستثمارها في تحقيق المآرب الضيقة، سواءً كان ذلك في بعده الضيق والمحدود ضمن واقع العمل المؤسسي، أو في بعده الشامل ضمن واقع الصراع بمختلف أنواعه وتلاوينه وأبعاده.
الكذب كظاهرة، كانت محط حوار مع عدد من الأصدقاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي إطار ما أثير من جدل وطرح للمرئيات المتباينة في تقييم ظاهرة الكذب، أشار بعض الأصدقاء إلى أن هناك كذباً أبيض، فيما رأى البعض الآخر أنها وسيلةٌ لتبرير الفشل، وفي سياق ردنا أكدنا على أنها أيضاً وسيلة لإحداث الضرر بالآخر.
ويتفق الفقهاء والمفكرون في العلوم الاجتماعية والتربوية على أن الكذب سلوك غير قويم، وظاهرة سيئة في جوهر مضامينه ومحددات أهدافه ضمن واقع العلاقات المجتمعية والانسانية. وفي سياق الحديث المنشور في صحيفة «الرؤية» الإماراتية في 31 مارس/ آذار 2014، قال رئيس قسم التوجيه والإصلاح الأسري في محاكم رأس الخيمة جاسم محمد المكي أن «الكذب مرض اجتماعي بغيض يسبب الكثير من المشاكل الأسرية التي ينتهي بعضها بالطلاق».
والكذب كذلك مقوم رئيس في ثقافة النفاق والمجاملات وحياكة الحيل والدسائس ضد الغير، للنيل من شخص بعينه أو ارتكاب جريمة بحق شخص ما، كما يحدث عادةً في استدراج الأشخاص لإيقاعهم في فخ الجريمة وتعريض حياتهم للخطر. وتلك وسائل شائعة في ممارسة الكذب والسلوك الإجرامي للأشخاص.
وتتجلى حالة الكذب أيضاً في وسائل الاقصاء الشخصي للأفراد المبدعين والمجدين في عملهم، ويجري التفنن في إتقانها وإحاطتها بالدلائل البعيدة عن الواقع والمنطق، واستثمار كافة الوسائل المتاحة وغير المتاحة للإقصاء والإيذاء، وتلك حالة كارثية في واقع العلاقات الاجتماعية، حيث تترك آثارها السيئة على مناخ جهود المبادرات والمساهمات الفردية في حقول العمل المؤسسي والاجتماعي، وتتسبب في إحداث تراجع في جودة الانجاز وتهتك البنى الرئيسة لقيم المنظومة المجتمعية.
وبالاتساق مع ذلك الواقع، يمكن الإشارة إلى حكاية غريبة حدثني عنها صديق وآثار الصدمة تبدو على وجهه، لما واجهه من مسلسل طويل من الكذب والدجل والنفاق من قبل زميله الموظف البسيط الذي استغل طيبته للتدرج في السلم الوظيفي، وقدّم له كل وسائل الدعم حتى صار المسئول الأول في المؤسسة، وتحوّلت بيئة العمل إلى بيئة طاردة وغير صالحة نتيجة مسلسل الإهانات وعدم التقدير لما يقدّمه من جهد، وحاك كل ما يمكن من أكاذيب للتخلص من وجوده.
الكيدية من أكثر مظاهر الكذب خطراً على الأمن الاجتماعي، وتبرز بأنماط وحالات مختلفة، وعادةً ما تستغل لتحقيق أغراض شخصية وغير نزيهة. والوشاية كظاهرة للكذب، من أبرز مظاهر الكيدية، ويستغلها الأفراد للتخلص من منافسيهم. وتبرز هذه الظاهرة عادةً في الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلدان وتتسبّب في الإجحاف بحقوق الناس والعباد. وفي هذا الشأن، حدثني جد زوجتي عندما التقيته في العام 1996 في قرية «بريسلوج» غرب أوكرانيا، قبل أن يرحل إلى العالم الآخر، حيث سرد مسلسلة المعاناة والظروف الصعبة في السجن نتيجة وشاية أصدقائه للجهات الأمنية في حقبة حكم «ستالين»، وذلك للتخلص منه بسبب الغيرة، بيد أن إيمانه العميق بقضاء الله وقدره جعله يعفو عنهم ويستمر في علاقة طبيعية معهم. وتشكل هذه الحالة ظاهرة بارزة في ممارسات الأفراد على مسرح الأحداث والأزمات المتصاعد لهيبها في عالمنا المعاصر.
والكذب أيضاً يشكل وسيلة للمراوغة وقلب مضامين الحقائق في تشخيص وتقييم الأفراد ضمن واقع العمل المؤسسي، وحقائق سياسات الدول ضمن واقع آلية الصراع الدولي، والصراع المذهبي والطائفي، وذلك بهدف التمكن من تحقيق أهداف غير معلنة وغير نزيهة، ويؤدّي التمكن من إنجاز مهامها التسبّب في إحداث الأضرار الكارثية في منظومة العلاقات المجتمعية والمؤسسية والدولية.
حقائق التاريخ تشير إلى استغلال الكذب في قلب الحقائق لتحقيق الأهداف العسكرية والسياسية، وهتلر من القادة المعروفين الذي تبنى فلسفة الكذب في صراعه العسكري والسياسي. والكذب وسيلة جرى استغلالها في العدوان الاسرائيلي المتواصل على الشعبين الفلسطيني واللبناني؛ وفي تبرير التدخل الأميركي في العراق وليبيا؛ وفي إثارة الخلافات المذهبية والطائفية، كما أنه وسيلةٌ تعتمدها الأطراف المتصارعة في النزاعات الداخلية للدول، وهي كذلك الوسيلة التي يجري استغلالها ضمن أجندة الاستراتيجيات السياسية والاعلامية في الصراع على محورية القرار الدولي.
زبدة القول أن الكذب ظاهرة خطيرة على الأمن المجتمعي والدولي، وتسببت في تفتيت كيانات ومجتمعات، وزرع الفتن والإضرار بمصالح الناس والشعوب والأمم.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 4227 - الخميس 03 أبريل 2014م الموافق 03 جمادى الآخرة 1435هـ