لا مجال للغموض في صريح النهب. ارتدادٌ في كل شيء يمكن رؤيته في الراهن. الراهن الذي يقترب من الأسطورة المتحرّكة، بمن كنا نظنّهم بشراً وهم يحتفون بأكل الميْتة، ولحم الإنسان الطازج يبعث على فتح شهيتهم في الحدود القصوى من الممارسة!
من الوَرْد إلى الورد يعصف بنا الحنين. من ورْد المجيء الأول إلى هذا العالم، إلى ورد الوداع الأخير، وخصوصاً الوداع المضمَّخ بالدم وما قبله وما بعده! يذبحنا كل ذلك أيضاً من الوريد إلى الوريد، نحن الأحياء في ظل عسس الموت!
لا نتمهّل لكي نعرف ملامح الذين يشبهوننا في هذا الغياب القسري. نتمهّل حين يفاجئنا الحضور. الحضور الشحيح الذي يترك لنا فسحة نسيان بسيط كي لا نفسد هيبة الحضور.
لا يُسعفنا الهجاء. هجاء كل هذه القيامات من حولنا. نحاول أن نركن إلى الطبيعي فينا. أن نمدح الحياة؛ ولكن أين هي؟ يسأل عجوزٌ يواري صرخةً فضحَها دمع ساخن سخونة وجعه الذي لا ينتهي. أصعب الدمع ذلك الذي يُسْتلُّ من كهولة العمر والحياة، في ظل عجز عن خوض معارك غير متكافئة، أو يُراد لها أن تكون معارك!
هي نفسها «فضيلة الغموض» التي تحدَّث عنها محمود درويش في «حَيْرة العائد»، الحيْرة التي هي بحجم تاريخ عريق من الغُصص والنفي والانتظار على حوّاف الأمكنة والوقت أيضاً! والغموض الذي صار من السهل كشف خباياه وأسراره، ولم يعد بمواهبه التي تستدرجنا إلى الظلال فحسب، فيما لا شيء يدل علينا. يدل على الانتباه الشخصي في كل ذلك الاستدراج. الاستدراج إلى لا شيء!
كأننا في امتحان المُعجزة، ونحن بالكاد نقوى على التلويح لأحبّتنا الغابرين، والذين هم في طريقهم كي يوقّعوا صكَّ وَرطتهم ليكونوا أحبّة حاليين، والنسيان بين هذا وذاك لا يغادرنا حتى في العادي من التذكّر والمألوف من التفاصيل.
نحن الذين تتبّعْنا سُلالة المعنى، بتْنا عاجزين عن فهم العاديّ مما يخصّنا من ذلك المعنى، في هذا الذهول المفتوح على اليابسة ولن يَسْلم منه البحر والهواء والذكريات وما أذِن الله؛ أو ما أذِن القلب من حنين واغتراب!
كل وجع لا ينتهي سببه أوطان متوعّكة أو مُحتضَرة. لا يتوعّك البشر في عافية أوطانهم. يحدث ذلك (يتوعّكون) ليدفعوا ضريبة استعادة عافيته. لا يريدون له أن يكون بعافية منقوصة أو يتم توقيتها كلّما لوّح استهداف، ونضجت مؤامرات اصطناعية برسْم التخطيط والطلب!
لا حرية لأيٍّ منا في التأمل. تتأمل حين تكون هويتك غير مُستلبة، ولا يباغتك أحد وقد تبدّلت ملامح المكان، بتبدّل ملامح بشرها الأصليين. بشرها الذين يحفظون أوطانهم حجراً حجراً، تينة تينة، رصيفاً رصيفاً، طفولة طفولة، وكهولة كهولة. كل ذلك يذهب أدراج سيول من تزوير المكان بتزوير بشره؛ فيما يُقصى الذين لولاهم لما كان للمكان أثر من دفء وظل ومعنى وأحلام وقلق.
وللوعي إضاءاته في مدىً مفتوح على اللانهائي في العتْمة التي تكاد؛ بل هي جارة لدمنا وأنفاسنا وأحلامنا التي لا نتوغّل في تفاصيلها إلا وراء الأبواب المغلقة. لا يحق لك أن تحلم في الهواء الطلق. الهواء الذي لك حصّةٌ فيه كبقية الكائنات لم يعد كذلك في زمن تأميم حتى النُطف قبل أن تتأهل للدخول في سجلّ سكّاني لا يختلف كثيراً عن سجلّ «حلال» بدوي يحفظ ملامح نُوقه وأصواتها وحتى تأوهاتها أكثر مما يفعل مع قبيلة من أبنائه!
وفي المنفى هنا... منفى برسْم أوطان يُشطب الواقعي والمعقول من أولويات بشرها الذين لا يرون إلا ما بعد المأساة في جانبها الأسطوري التي لا ترى أحداً غير الذين يصنعون المأساة، والذين يصفّقون لها بغياب الحس وحضور الوحش. الوحش الذي يعوّض عن دمامة حضوره والخلق وحتى طبيعته التي نعرف، بذلك الذهاب الشرس للفتك بالماثل من جماليات.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4226 - الأربعاء 02 أبريل 2014م الموافق 02 جمادى الآخرة 1435هـ