العدد 4223 - الأحد 30 مارس 2014م الموافق 29 جمادى الأولى 1435هـ

تباً لي ولكم!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تختصر لحظة العراق «اليوم» لحظات سيئة من «تاريخه البعيد». تطوَّرَ المشكل السياسي بعد الاحتلال الأميركي العام 2003 إلى مشكل ديني منفلت، فاستُدعِيَت في معركته كل الأسلحة والأدوات، التي تزيد ناره أواراً، وحميَّته استعاراً وحقده جنوناً وخطابه بذاءةً.

على حين غرة، وُجِدَ ساسة العراق (ومن خلفهم المسلمون والعالم يرقب) وهم يعيدون صياغة ملامح «صراعات الإسلام» في قرونه الأولى واللاحقة. ظَهَرَ لنا سواد الكوفة، ومصارع كربلاء وحركات التمرد على الحكم. وبدأ الجميع يَتَنَشَّق دم الحجاج بن يوسف الثقفي، وبجكم التركي ولَمَعَان سيفيهما الحادَّيْن. إنه إعادة درامية ممجوجة للزمن.

كيف لتاريخٍ طويل من الدم، استمرَّ لقرون، أن يُختَصَر في عشريَّةٍ من السنين (2003 ولغاية الآن). إنه لأمرٌ مهول. مَنْ يتصارعون عليهم وعلى حقوقهم اليوم هم تحت التراب، يتوسَّدونه منذ أزيد من ألف ومئتي عام. ورغم ذلك، لم يسقط حقهم لا بالتقادم، ولا بالصلح، ولا بالعقل الرشيد! أيُّ تخلف وبلاءٍ أكثر من هذا التخلف وهذا البلاء.

لقد أدى ذلك الاسترخاص للدم، لأن يُنكَب العراق في كل ساعة من ساعات يومه. توقفت العجلة فيه على المسارات جميعها، سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وأمنياً. وعندما تتوقف عجلة التنمية، تتوقف معها القدرة على خياطة مستقبل الأجيال، ويتضعضع الأمن القومي للدولة، التي تصبح مكشوفة.

قبل أيام، نَقَلَت وكالة الأنباء الفرنسية نتائج المسح الذي خلصت إليه «مجموعة ميرسير الفرنسية للاستشارات». ميرسير، قيَّمت 239 مدينة في العالم من حيث مستوى المعيشة والاستقرار السياسي والجريمة والتلوث لتأتي بغداد في نهاية القائمة، ماحقة بذلك التدوينات الحمورابية، والجسور العباسية، والأسواق العامرة، والمكتبات الباهرة.

المجموعة لم تعلم جوهر تماثل بغداد مع مدينة منكوبة كـ «بانغوي» الإفريقية، حيث يُقتَل سكانها بالفؤوس والحِراب، ولا مع مدينة كـ «بورت» أو «برنس» الكاريبية حيث الزلازل والصراعات الاجتماعية، لكننا نعلم السبب الحقيقي في ذلك: إنه العَبَث بالمذاهب والطوائف، عبر بَقْر التاريخ ونَفْش السياسة، حتى انكشفت لنا هوة لا ندري أين قاعها.

مَنْ يستهِن بذلك، عليه أن يتذكر، أن أربعة ملايين فرنسي من أصل عشرين مليوناً ماتوا في معارك مذهبية/ طائفية إبَّان اقتتال الكاثوليك ضد مَنْ كانوا يُدعَون بالهراطقة. هذه ليست مزحة، وليست دورة اجتماعية حتمية، بل هي واحدةٌ من أخطر وأسوأ اختصارات البشر لبعضهم على مقصلة الموت الرخيص، الذي لا يُمكن أن يُقسَم العمر عليه.

المشكلة، أن العراقيين يُولدون اليوم، لكن حقيقتهم تقول، أن يداً تخطفهم من زمانهم هذا لترميهم في زمان غابر، كي يعيشوا أجواءه وظروفه ومقاييسه كاملة. لذا، فإن أحداً إنْ صرَخَ في البصرة أو بغداد أو الموصل، فلن يجد صوته إلاَّ إلى حيث ينتمي ويؤمن.

كل شيء هناك، بات يُرَدُّ إلى أصله المذهبي والطائفي. الإسم، المكان، الزمان، الإنجاز، الفرح، الترح. وهو ما يعني أنه لا يوجد مواطن بل يوجد فرد له جذور وحدود صارمة. ولا يوجد وطن ينتمي إليه المجموع، بل أوطان تتناثر عليها ولاءات. ولا يوجد زمانٌ يسير الجميع في سياقه، بل أزمنة متقدمة ومتأخرة، لا يصلها ببعضها خيط ولا اتصال ولا فهم. ولا يوجد تطور يُبنَى على تطور، فيُهدَى إلى الجميع، بل كرنفال من البطولات الفئوية.

أكثر من ذلك، لم يعد يُنظَر إلى اللحظة العاطفية في المجتمع العراقي، فرحاً كانت أم حزناً على أنها لحظة جامعة، تتوب إليها الضمائر، وتتصافح فيها الأيدي، وتتصافى فيها القلوب، بل أصبحت فرصةً لنكأ الجرح، وحشوه بالملح. وعندما تموت تلك اللحظة، وتفقد جدواها، تصبح العلاقات الاجتماعية صورةً لأرض يابسة، لا حياة فيها ولا نَضْر.

بداية الأسبوع الجاري، كتبت صحيفة العراق الجديد، تقريراً مفزعاً عن حالات الاختطاف بهدف الفدية في العراق. أطفال صغار، ذكور وإناث، يذهبون ضحية لعمليات الخطف. إنها حالة مريعة، تعطينا حقيقة ما يجري من تيبُّس في المشاعر. صحيح أن تنظيمات سوداء هي مَنْ تقوم بذلك، لكن الحال لا يقتصر فقط على تلك الجوقة الظلامية، بل أصبح الجرم يُعمَل به في طول العراق وعرضه، حتى ماتت على يديه البراءة والعاطفة.

ربما كانت الحسنة الوحيدة التي حافظت على ما تبقى من روح العراق، هو التشتيت الديموغرافي للطوائف والأعراق إلى حد ما، والتي جرت خلال الثمانين عاماً الماضية، وأيضاً، وجود الدماء المتعاكسة في المجتمع العراقي، التي أدخلت المسيحي بالمسلم، والعربي بالكردي، والشيعي بالسُّني، وإلاَّ لأصبح العراق أسوأ حالاً مما هو عليه الآن. هذه هي سترة النجاة التي بَقِيَت لزعماء هذا البلد، كي لا تتحوَّل تجربتهم إلى ما دون الوصف.

في إحدى صلوات الجمعة الأخيرة، التي أمَّها مقتدى الصدر، وحضرها جمعٌ من التيار الصدري، خاطبهم بكلمات ثلاث تستحق التوقف، رغم أن عديدين باتوا يتداولونها للتندر فقط. الصدر قال كلاماً تقريعياً، في معرض استنكاره لأتباعه ممن يمتنعون عن تطبيق توجيهاته: تباً لي ولكم! وهي كلمة يجب أن تُعمَّم على زعامات الحكم الفاشلين هناك ومؤيديهم، كونها اعترافاً علنياً بالفشل وجلداً للذات.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4223 - الأحد 30 مارس 2014م الموافق 29 جمادى الأولى 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 7:59 ص

      تسلم أبو عبدالله

      مقال رائع واسلوب شيق ..وواقع مؤلم

    • زائر 10 | 5:54 ص

      ابو حسين

      يا اخي الغزيز انا لم امدح الواضع الحالي هو سيئ ولكن من كان السبب هل الشعب المغلوب غلى امره في السابق والان ليس نتيجة ظغيان صدام البطل
      المغور الذى اصبخ في الحفرة كالفار الذليل في ابدي الامريكان ثم اي امن
      في حكم الظاغي صدام و ماذا عن الحروب العبثية في زمن صدام والمقابر
      الجماعية وخرب في حلبجة الكردية هولاء لبست البشر ثم اي اقتصاد قوي تتكلم
      اذن لماذا العزو العراقي للكوبت لا اعتقد ان الاحرار العراق تترخم على الظاعي
      نعم تتمنى الخروج من هذة الازمة ولكن لا يجوز الترخم المجرم الذي كان سبب
      في ذمار

    • زائر 9 | 3:28 ص

      هذا من نتاج التوريث المدمر

      وصل بنا التوريث حتى في العمّه والمسجد والحسينيه والحوزه!! وهذا التوريث الغير مستحق لمن يُورّث له ظلم بيّن, ولا تنسى أستاذي الكريم حكام العرب فهم من أسسه وتباً لهم جميعاً.

    • زائر 7 | 2:02 ص

      هناك فئات من المسلمين سفك الدماء راحتهم

      نسمعهم ونقرأ لهم ونراهم يتباهون بالقتل بسفك الدماء بنحر الناس نتعجّب ممن نحر ريحانة رسول الله كيف اقدم على ذلك العمل المشين واذا بنا نرى بشرا اسوأ من الوحوش تقتل وتحتزّ الرؤوس للتشفي
      ماذا ابقى هؤلاء للوحوش وللشياطين؟

    • زائر 6 | 1:39 ص

      احسنت بوعبدالله

      جزاك الله خير وتبا لنا ولهم ايظا

    • زائر 5 | 1:26 ص

      صحيح

      تسلم يا الحمد على ماتنمقه يراعتك....

    • زائر 4 | 1:09 ص

      ابو حسين

      لا يا عزيزي الشعب الغراقي الحر ابد لا يترحم على صاحب المقابر الجماعية المجرم
      صدام ولكن من يترخم علي ايام صدام هم ازلام صدام والظائفين وكل جعل العراق
      خراب ودمار جميع ايام صدام كان العراق في حروب عبثية اكلت الاخضر واليابس من خير العراق وكان النتجية من تهور هذا الرجل الوضع المؤسف يا اخي الخر
      لا يمكن ان يترخم على الظغاة

    • زائر 8 زائر 4 | 2:14 ص

      لا يعالج الخطأ بخطأ أكبر منه

      من قال لك لا يترحم العراقيون على أيام صدام حتى لو كان طاغية كما تقول ولكن كان الأمن والأمان عنوان العراق ، كان الفقر بسبب الحصار ، لم تكن هناك أمية ، لم يكن هناك طفل يتسول ، لم تكن هناك أمرأة تتاجر بجسدها من اجل لقمة أطفالها، الآن ماذا ترى الوضع الكل ينهب ويسرق باسم الدين والمحافظة على الكرسي ، الحروب التي دخلها العراق خطأ ولم تكن مدروسة ولكن كان الشعب العراقي عزيز لا دليل مثل الآن كان كريما معطاة ليس مثل الآن يقبل الصدقات من الزوار والسياح، يموت العراقي من الجوع ولا يتسول أما الآن فحدث ولا حرج.

    • زائر 3 | 12:23 ص

      عجبني

      عجبني العنوان صراحة ومناسب حددددده

    • زائر 2 | 11:04 م

      يا يريت يعترفون صراحة بالفشل.

      تبا لي ولكم قالها الصدر لأن الكثير من الصدريين لا يحضرون لصلاة الجمعة. ولكن الصدر لم يدرك لماذا لا يحضرون الصلاة ، إنهم مشغولون في البحث عن مصدر رزق لهم ولعائلاتهم ولم تعد صلاة الجمعة أو غيرها من الأولويات لدى العراقيين ليس كفرا وإنما مجبرين نتيجة للبحث عن سد الجوع والفاقة اللذين هم فيه. ماذا فعل الساسة الجدد غير تأمين مصالحهم إلى ما بعد انتهاء فترتهم؟ ماذا فعلوا للمواطن العراقي منذ 11 سنة ؟ لم توضع حجر على حجر، مما جعل العراقيين يترحمون على أيام صدام ، لك الله ياعراق لقد ابتليت فمن ينقدك.

    • زائر 1 | 9:48 م

      اللاوعي

      الشعوب تتخذ صفاتا بسبب تجاربها و تغدو تلك الصفات جزءا من كيانها حيث تغرس في لا وعيها و تنتقل عبر الأجيال بسبب تكرارها علي الأبناء. هذا اللاوعي لا يشعر بها الشخص و يعتبر تصرفاته حسنة و عادية. طوال تاريخ العراق لم يحكمه اي عادل مثقف واع. كل من سيطر علي العراق ووفر الامن كان سفاحا. مع الاسف لم يكن فيهم اي مفكر بعيد النظر لينشأ امة متآلفة تعيش علي هذا الوطن. بل جل همهم كان جمع المال و استعباد الناس و كان الحكم سيبقي لهم أبد الدهر. لم يتعظ احدا منهم و سوف لا يتعظون.

اقرأ ايضاً