صدر ديوان زكريا محمد (احجار البهت) منذ عام 2008م من داخل الارض المحتلة، وهو من سكان رام الله وله اهتمامات بالشأن العام والفن التشكيلي. نشير إلى انه نادرا ما تصلنا دواوين من تلك الارض البعيدة القريبة للقلب. ولعل مسائل متعددة تحول دون وصول الكتاب عبر الحدود العربية وما يتوسط ذلك من مشكلات النشر وغيرها، ولكن ذهابنا إلى مساحة قريبة من تلك الارض (الاردن) تجعل من الممكن للفرد أن يتواصل مع بعض ذلك الانتاج الابداعي في الارض المحتلة وهذا بعض ما حملته معي منذ زمن احاول ان افتح نافذة عليه، وسأتناول قصيدة واحدة قصيرة جدا من هذا الديوان بعنوان (بيت)، وهو أمر مألوف في النقد الادبي.
تبدو ظاهرة التطرق إلى المكان باعتبارات متعددة موضوعة متكررة وتتجلى كبنية عميقة في الشعر الفلسطيني سواء كان داخل الارض المحتلة أم في الشتات الفلسطيني. ويبدو أن المسائل الحميمة والتي تحدث باستمرار وقريبة من الانسان بشكل ملازم للحياة تكاد لا تمس باعتبارها امرا مسلما فيخرج عن المفكر فيه. ولنا في ظاهرة الجاذبية التي عرف الانسان نتائجها منذ انبثاق الوعي البشري له باعتبار الاشياء تسقط باستمرار نحو الاسفل، إلا أن اكتشاف الجاذبية احتاج قرونا من تطور العقلية العلمية وكذلك يمكن أن نشير إلى دوران الارض وموقعها في الكون... الخ، فامتزاج الذات بالبيت أو احد عناصره المكونة يشهد بحالة الحميمية التي تعبر عن الانسان، فيقول محمود درويش «اطل كشرفة بيت، على ما اريد».
ويبدو أن ما يجعل البيت في الشعر الفلسطيني يغور في البنية العميقة للشعرية عند الشعراء الفلسطينيين، وزكريا محمد واحد منهم، هو كونه تعبيرا عن الحالة الخاصة التي تبرزها الذات باعتباره عنصرا حميما شديد الالتصاق بها. ولعل اقوى تلك العناصر التي تنمو بالنسبة للشعر الفلسطيني تجاه البيت هي حالة الفقد، تلك الحالة المتكررة في هدم الكيان الصهيوني لبيوت الفلسطينيين وتهجيرهم، وبنية الشوق التي تقوم بحلم العودة إلى ارض الاجداد، تلك الحالة التي تنمو بشدة تجاه البيوت المتروكة والتي تقوم في المتخيل بأنها مهجورة بينما يستولي عليها المستوطنون.
ولكن شاعرنا موجود داخل الارض المحتلة ويظل حلم البيت ماثلا في وجوده، ولعل ما يثير تلك الحالة التي يمكن رصدها للمراقب من حركة الطيور داخل النص التي تبني اعشاشها عودا بعد عود، تلك الحركة التي توحي بالاستقرار والثبات والتكاثر وتظهر في خلفيتها حركة الربيع، بينما يضفي العود كونه مادة البناء تصورا للشجرة التي تعطي العود وتكون مكانا ثابتا للعش في اللحظة ذاتها عادة. إن استثمار وجود ظلال المعنى الذاهب للشجرة يمكن أن يفتح دائرة التأويل كون تلك الشجرة ساكنة بعمق في تراثنا العربي والإنساني، وهي مما يشير إلى الوطن وجودا، والوطن يعني فيما يعني الانتماء إلى المكان بما يحمله من حميمية الوجود واستطالة التاريخ وبناء الذاكرة، من هنا تلتمس تلك الجمالية التي تضفيها الروح الشاعرة على المكان بوصفه حاضرا وذاهبا في الغياب المشتهى.
يظل الوطن، المعادل الموضوعي للبيت المشتهى عند زكريا محمد في هذه القصيدة ساكنا حالة من البناء المؤجل، فينزع ناحيتها ليتمثل الفقد في غياب البيت المشتهى، وهو محرك الحنين لمشاكلة الطيور وهي تبني اعشاشها في فعلين منفصلين حركتها الدائبة وغايتها في البناء. ولكن ذلك النزوع لا يقوم في الذات الشاعرة على مجرد التراكم الكمي للأعواد بل هي تثار أيضا من خلال حالة الطيور المسرعة، تلك الحركة المسرعة تذهب نحو هدف واحد يوحد كل طيور السماء ليجعل كل طائر يحمل عوده في منقاره، لتعبر عن المسئولية الفردية في فعل في الوجود الايجابي الذي يقوم على المقاومة ذهابا لهدف ماثل في الذات نحو امتلاك وطن مشتهى، ذلك هو الانعكاس العميق للتأمل السياسي لحركة الوجود الذي يسعى لتأسيس وطن ما قبل أن يحال وجود الفرد إلى هجرة ليندغم في غبار الكون العظيم.
العدد 4221 - الجمعة 28 مارس 2014م الموافق 27 جمادى الأولى 1435هـ