في حبكة فنية عالية، قدّم الأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز (1870-1812) في قصته القصيرة التي تحمل عنوان «قصة الطفل» (The Child Story) الكثير من المعاني العميقة المتعلقة بعدد من جوانب الحياة القصيرة التي يعيشها الإنسان على وجه هذه البسيطة.
من ضمن هذه اللفتات الفنية والبليغة، حقيقةٌ تتعلق بالإحساس بالوقت، حيث عادةً ما يبدو الوقت للطفل الصغير والشاب، بأنه يسير ببطء شديد، ويتمنى في قرارة نفسه لو كان الأمر بيده ليسرّع من وتيرة الوقت حتى يصل إلى السن الذي يتمناه، ليحقّق بعض ما يصبو إليه. ولكن الأمر يختلف عند بلوغ الفرد منا منتصف العمر، فعادةً ما يكتشف بأن رحلة الحياة تسير بوتيرةٍ سريعةٍ جداً، وعليه يتمنّى لو أنها تسير بوتيرةٍ أكثر بطئاً!
حقيقة سرعة مرور الوقت أمرٌ ثابتٌ ويعرفه أشد المعرفة كل من بلغ منتصف العمر، وأحياناً قد يدرك هذه الحقيقة من هم أصغر من ذلك بكثير. فكل ذلك مرتبطٌ بعدة أمور متشابكة ومعقّدة، وبقدرات عقلية وظروف نفسية واجتماعية تختلف من شخص إلى آخر، لسنا في وارد الخوض فيها. ولكن الحقيقة الثابتة هي أن الوقت يسير مسرعاً، بشكل مذهل، وقد يكون مخيفاً، ولكن العبرة في حسن استغلاله، من قبل الأفراد أو الجماعات. بل وتتعاظم أهميته إذا تعلق الأمر بالبلدان والأمم، حيث يفترض بأن عامل الوقت مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالخطط والإستراتيجيات المختلفة ذات المستويات القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى منها.
ففي قصه يوسف (ع) كما جاءت في القرآن الكريم، كان ادخار الحنطة والمحاصيل في فترة الوفرة وزمن اليسر، والذي تم وفقاً لخططٍ إستراتيجية محكمة، العامل الرئيسي في التغلب على القحط الذي أصاب البلاد والعباد. ونحن نعلم أن القصص القرآنية الكريمة، هي عبارةٌ عن عِبرٍ ودروس لنا نحن بني البشر، حتى نتعظ منها ونسير على بينةٍ من أمرنا، لنسعد في الدارين.
إن الاستغلال الأمثل للموارد المادية المتاحة، والاستثمار ما أمكن في البشر، يجب أن يكون على سلم أولويات الحكومات والأنظمة الحصيفة، وذلك من أجل السير في ركب الحضارة والتقدم والرقي، ولكن للأسف أن ما نراه بأم أعيينا ونعايشه بشكل جلي في وطننا الحبيب، هو هدرٌ للموارد المادية، وإمعانٌ ممنهجٌ في وأد طاقات إنسان هذه الأرض المعطاءة. والأمثلة على ذلك كثيرة وكبيرة نعايشها بشكل يومي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كثرة قضايا الفساد التي يتزايد عددها باطراد، عاماً بعد آخر، رغم كل الوعود بمكافحتها والتصدّي لمرتكبيها، وتوعدهم بالويل والثبور، ولكن من دون جدوى! وذلك لأن مرتكبيها يعرفون بأنهم في مأمنٍ من المساءلة، حيث ينطبق عليهم قول جرير عند تهكمه على الفرزدق، حين قال:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
أبشِر بطولِ سلامةٍ يا مربعُ
وأما فيما يخص إنسان هذا الوطن، الذي يجب أن يكون عماده ومستقبله، فهو مصنّفٌ حسب توجهه وتطلعاته ومذهبه... إلخ. وعليه يحرم الكثير منهم من المنح والبعثات الدراسية، والتوظيف، وتكافؤ الفرص في الترقيات والتمهن، بل وبشكل فاضح يجلب من مختلف دول العالم من يتم تسليمهم وظائف في مختلف القطاعات الحكومية، بوجه خاص، ويحرم منها الخريجون والمؤهّلون من أبناء الوطن، سواءً ذلك في سلك التعليم أو التمريض، أو الطب أو الأمن، أو القطاعات الكثيرة المختلفة الأخرى.
ويرتبط كل ذلك بسياسة تقطيع الوقت، مثل عدم الدخول في حوارٍ ذي مغزى وتفاوض جدي، يمكن أن يفضي إلى حلول طويلة الأمد تصون الوطن، كل الوطن، بمختلف أطيافه وتلاوينه ومذاهبه الفكرية والعقائدية، ويجنّبه مختلف الخسائر المادية والبشرية، وتوقف الجراحات العميقة، والكف عن التعويل على ما يسمى بـ «الحلول الأمنية»، التي يتم من خلالها ضرب مكوّن أصيل في المجتمع ومعاقبته بشتى صنوف التنكيل، ظناً بان ذلك سوف يخمد جذوة المطالبة بالحقوق المشروعة، والتي هي مطالب بديهية، ومنصوصٌ عليها في الدستور المحلي، فضلاً عن المواثيق والمعاهدات الدولية.
ربما لا يدرك البعض ومن منظورٍ قاصر، أن قطرات الماء المتساقطة على الصخر الصوان، تُحدث آثارها الكبيرة والعميقة، بفضل الاستمرارية وعامل الزمن! فبالتأكيد أن عامل الزمن ليس في صالح من يريد وقف سنن الحياة من تطورها الطبيعي في جميع مناحيها. فأجيال اليوم التي تمرّ بخبراتٍ متراكمة ومتسارعة، تتسم بالكثير من المتغيرات الكبيرة من تكنولوجية وعلمية واجتماعية، وأحداث جسام في مختلف الأمور، عابرة للقارات وبسرعة قصوى غير مسبوقة، وفي الوقت نفسه تعايش ليل نهار تحديات كبيرة، وبتناقضات تزيد من قسوة عيشها، كالانتهاكات المستمرة المختلفة الأشكال والصور، والتمييز المقيت الذي يطال كل مناحي حياتها، في الوقت الذي ترى وتسمع المفارقات الصارخة بين الأقوال والأفعال. فمن المؤكد أن كل ذلك يزيد من صلابتها، وعزمها على المضي قدماً في سبيل الإصرار على التشبث بنيل حقوقها كاملةً غير منتقصة، بشتى الوسائل السلمية والحضارية، بما يحفظ لها حقوقها ويحقق لها الكرامة الإنسانية، مهما طالت المدة. فكفى هدراً للوقت الذي لا طائل منه!
إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"العدد 4221 - الجمعة 28 مارس 2014م الموافق 27 جمادى الأولى 1435هـ
نسأل الله الفرج
مقال رائع ويعكس الحال المرير والظلم المستشري.. ولكن مهما طال لن يدوم .. له نهاية
نعم الوقت الضائع
قراءت المقال الجميل بتمعن, فوجدت فيه تشخيصا دقيقا وحرصا على هذا البلد الحبين. نعم نريد لبحريننا الحبيبة كل الخير. بوركت دكتور وبورك قلمك الناطق بالحق
القول الحق
بارك الله فيكم، فعلا ان سنة الحياة هي التطور، وان المعول على ديمومة محاربة الله هو وهم من الخيال.