صَدَقَ البروفسور ألكسندر موتيل من جامعة راتغرز في نيو آرك بولاية نيوجيرسي في نبوءته. فقبل أسبوعين كان يقول: «الغرب يمكن أن يختار أن يَصُمّ أذنيه ويصرف نظره حتى لا يرى احتلال (القرم) لكن فقط بشرط أن يعترف بوتين بالحكومة الأوكرانية الحالية». فردة الفعل الأميركية والأوروبية لا تشكل رادعاً لموسكو سوى أنها «عاتِبَة»!.
في بحر أسبوع تمرَّدت حكومة القرم على كييف، وصوّت البرلمان القرمي على الاستفتاء حول البقاء في جسد واحد مع أوكرانيا أو الانضمام لروسيا. أجري الاستفتاء، وحاز قرار الانفصال عن أوكرانيا 96 بالمئة. ثم ما لَبِثَت حكومة القرم أن طلبت الانضمام لروسيا التي وافقت على الطلب، وصدَّقت وصفَّقت لذلك، وانتهى كل شيء. إنه مشهد درامي.
اختصرت رئيسة ليتوانيا داليا غريبوسكايتي ما حصل، وترجَّت «القادة الأوروبيين على أن يدركوا أن روسيا تحاول إعادة ترسيم خريطة أوروبا ما بعد الحرب وحدودها». لكن هذا التصريح، ينطوي على كثير من التفاصيل التي أحجَمَت داليا عن أن تتفوه به، ويبقى على المحللين والصحافيين، أن يُبعثروا في التاريخ، ويُحملقوا في الجغرافيا كي تتضح الصورة.
كانت مشكلة الروس الإستراتيجية لقرون، تكمن في الخروج من عزلتهم الجغرافية القاسية، باتجاه البحار الدولية والدافئة، حيث أن قَدَرَها الجغرافي، أن تكون مخنوقة بثلوج محيط الشمال، الأمر الذي حرمها من خطوط الاتصال البحرية.
قرّر الروس معالجة الأمر، بفتح ثغرة في جدار جغرافيا الآخرين. خاضوا سبع حروب شرسة ضد العثمانيين، وأتبعوها بحرب الخمسة أعوام (1787 – 1792) حتى وصلوا إلى بحر أزوف، غرب شبه جزيرة القرم، ومنه إلى مضيق كيرتش، ثم البحر الأسوَد، باتجاه مضيق البسفور ثم بحر مرمرة، فعبور مضيق الدردنيل، وصولاً إلى بحر إيجه، وانتهاء بالمتوسط.
تلك الخارطة التاريخية، والجغرا/سياسية، هي جوهر التفصيل في الموقف الروسي. عندما انهار الاتحاد السوفياتي، ظلت أوكرانيا في علاقات سياسية واقتصادية وثقافية قوية مع روسيا، يساعدها في ذلك، التغييرات الديموغرافية التي حصلت في الشرق الأوكراني وفي شبه جزيرة القرم. لكن، ومنذ العام 2004، بدا الروس يتوجسون من طموحات الغرب الأوكراني في الانضمام إلى أوروبا الغربية، الأمر هدَّد قاعدتهم البحرية في القرم.
صحيح أن الثورة البرتقالية فشلت، بانفراط عقد (يوشنكو/ تيموشينكو) الموالييْن للغرب، وجاء حلفاء موسكو من جديد إلى السلطة بفوزهم في انتخابات العام 2010، لكن القضية كانت تتعلق بوجود رغبة قومية وسياسية حقيقية لدى قطاع مهم من الأوكرانيين للالتحاق بأوروبا. لذا، فقد عادت الأزمة إلى أوكرانيا من جديد في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
هنا قرَّر الروس أن يعيدوا أولوياتهم بحسمٍ في الجغرافيا الأوكرانية. وضعوا الخارطة على الطاولة. مساحة أوكرانيا هي 603 آلاف كيلومتر مربع. بينما مساحة شبه جزيرة القرم هي 27 ألف كيلومتر مربع فقط، أي أنها لا تزيد عن 4.5 بالمئة من مجموع الأرض الأوكرانية، لكنها تمثل العَصَب الجغرافي لاتصال الروس بالعالم، عبر البحر الأسود.
لقد كان استئجار قاعدة القرم البحرية بالنسبة للروس محاطاً بالمخاطر والتقلبات السياسية. كما أنه ارتبط بتخفيضات الغاز التي تقدّمها موسكو لكييف (30 بالمئة انخفاضاً عن الأسعار الحقيقية) وتقديم مبلغ 100 مليون دولار، فضلاً عن أن البقاء الروسي في القرم كان مشروطاً بفترة زمنية تنتهي مع حلول العام 2042. لذا، اختار الروس التهام شبه جزيرة القرم بالكامل، حتى لا يبقى شيء من كل ذلك.
بعد هيمنة الروس على القرم، وضمها إلى الأراضي الروسية، تغيَّر كل شيء في تلك المنطقة. فبحر أزوف، أصبح بحراً روسياً بامتياز، بعد غلقه أمام الحدود الجنوبية الشرقية لأوكرانيا. وبات الإبحار نحو مضيق كيرتش، يحتاج إلى إذن روسي، للوصول إلى شرق وجنوب البحر الأسود إذا ما أرادت السفن الأوكرانية الذهاب باتجاه الأراضي الجورجية.
وبعد هيمنة الروس على شبه جزيرة القرم، لم يعد للأوكرانيين، وكذلك الغرب، من ورقةٍ للضغط على روسيا فيما خص رغباتها في البحار وصولاً للأطلسي، فضلاً عن استئسادها عليهم في مجال الطاقة.
أيضاً، يتذكر الروس (ومعهم الغرب) أن هذا المنفذ البحري في القرم، هو الذي مكَّن موسكو من تحطيم تمرد الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي في العام 2008 أثناء الصراع على أوسيتيا الجنوبية. كما أن تلك القاعدة، مكنتهم من التحرك بحيوية لمساندة نظام الرئيس بشار الأسد في سورية طيلة الأعوام الماضية، فضلاً عن رغبة الروس الجامحة للدخول في عمليات التنقيب عن النفط، وخصوصاً تلك التي اكتُشِفَت قبالة السواحل السورية.
أمرٌ آخر يجب أن يُنظَر إليه بجدية، هو أن 40 في المئة من واردات أوكرانيا من الطاقة تأتيها من آسيا الوسطى، و35 بالمئة تأتيها من روسيا، والباقي يتم استخراجه من داخل أوكرانيا. المشكلة الآن، كيف ستسير تلك المعادلة بعد ضمّ القرم لروسيا، وظهور خلاف شبه عسكري ما بين موسكو وكييف؟
هل ستسمح روسيا بمرور واردات الغاز القادمة من آسيا الوسطى على أراضيها باتجاه أوكرانيا؟ لا نعلم، في ظلّ غياب البديل، الذي يبقى بحر قزوين الذي لازالت تختلف الدول المتشاطئة عليه في مسألة تقسيمه بينها. ثم هل ستعرقل موسكو وصول كميات الغاز الصادرة من أراضيها باتجاه أوكرانيا؟ والأهم، كيف ستتعامل كييف مع الثروة الغازية لديها، وهي تدرك أنها تتركز في مناطق موالية سياسياً وثقافياً وعرقياً لموسكو!.
القضية معقدة وخطيرة وترسم ملامح عالم جديد من الصراع، سيلقي بظلاله على مناطق عديدة من العالم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4216 - الأحد 23 مارس 2014م الموافق 22 جمادى الأولى 1435هـ
شكرا
مقال رائع كما عودتنا دائما
الغرب بغوها طرب جاتهم نشب
كرايميا هي جولاش بالغازالروسي فالاولي أن يطلعها الملاس الروسي
شكرا
الشكر موصول لك اخي محمد ولقلمك الراقي في البحث والتحقيق والذي يضفي المزيد من الفهم والإدراك لما يدور حولنا ممن متغيرات سياسية وجغرافية .
صبااح الخير
ابدعت اخي محمد وكالعااده مقالاتك متميزه وتزيد من ثقافتنا واطلاعنا على العالم الأخرى بعيد عن الاحتقان الموجود والمتلبد بالغيووم بارك الله فيك
المحصله
البقاء للاقوى و امريكا واوروبا ماعندهم وقت للامور البسيطه الجماعه تعودوا يشتغلون على ثقييل .. شكرا لقلمكم وياريت يكون تحليل قضية البحرين بنفس المستوى من الحياديه
تحية صباحية لك استاذ محمد واشكرك على هذا التحليل الدسم
تحليل ممتاز وينم عن متابع وباحث كرس قلمه للبحث عن الحقيقة وربط الاحداث