العدد 4214 - الجمعة 21 مارس 2014م الموافق 20 جمادى الأولى 1435هـ

تحت الأرض... نبش السيرة (2)

عمال بحرينيون ينتظرون صرف رواتبهم كل أسبوعين في معسكر البعثة الدنماركية في قلب قلعة البحرين
عمال بحرينيون ينتظرون صرف رواتبهم كل أسبوعين في معسكر البعثة الدنماركية في قلب قلعة البحرين

يعيش منقب الآثار وعيونه على الأرض. ثمّة ما يأخذها ويأخذه لسرّ الحياة تحتها وللياقة النبش فيها. يجمع أثر الأسرار الصغيرة. يضع السرّ إلى السر ليفهم، وليرى الحياة عبر تلك الأسرار. القطع الصغيرة المدفونة تحت الأرض لا تتشابه ولا تتكرر مثل ذاكرة تاريخ لا تتكرر فلا تعيد إنتاج ما مرّ بالعيش فيه دون تجاوزه. يرفع أطنان من الرمال من أجل سرّ صغير. لكن المنقب لا يتوقف عند الكشف عن السرّ الصغير حتى لا يعيش فيه وحده. هذه وظيفة الفنّ أيضاً: أن نرى. وما يفعله المنقب وهو ينتظر مفاجأة ما تحت معول أو أداة حفر، أو حركة فرشاة ناعمة تزيل طبقة تمنع الرؤية هو ما يفعله كاتب السيرة أيضاً: الكشف عن الحياة في الموت والترويج لها، وكيف احتفى الراحلون بالحياة.

«وفي 9 يناير 1954 بدأنا الحفر»

قال ذلك الآثاري جيفري بيبي بعد أن بدأت البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار تتجاوز مهمات جمع كسّار الفخار من مواضع مختلفة في البحرين إلى حفر الأرض. لحظة تستحق التوثيق: من سطح الأرض إلى نبش باطنها. هذا النبش يحتاج إلى نبّاشين منظمين، حيويين، يعرفون الأرض وتعرفهم. استعانت البعثة بمقاول عراقي من سوق المنامة زوّدها بعشرين عامل عليهم رئيس ولهم حارس في خيمة وخزان ماء. لا يعطي بيبي تفاصل أكثر عن هؤلاء العمّال لكن بيتر غلوب يحدد مكان جلب العمّال: باب البحرين، وأنّهم عشرون كولي من جنسيات مختلفة: آسيويون، أفارقة، ومن مرتدي القمصان الطويلة ومعتمري «الكوفيات». الصور الفوتوغرافية التي بين يدي تشير إلى وجود عمال عمانيين بلباسهم التقلدي أيضاً. لكن هناك مشكلة محبطة. أعني أكثر من مشكلة.

هؤلاء العمال الحفاة لا يملكون أدنى فكرة عن طبيعة العمل الآثاري الصعب. لا خبرة لهم في النبش. لا تواصل بين عيونهم وعيون المنقب التي تحدّق في الأرض على أنّها أسرار الحياة. المشكلة الكبرى أنّه يتمّ استبدالهم يومياً عند باب البحرين بآخرين وصفهم غلوب بأنّهم لا يقلون سخطاً عن المجموعة السابقة. الحل: الحصول على عمّال محليين من تلك القرى التي يتمّ التنقيب فيها أو القريبة منها. يقول غلوب «وقد حاولنا الحصول على أيدي عاملة من إحدى القرى لكن الجواب كان سلبياً حيث قالوا بأنّهم ليسوا كولية». لماذا كانت ردة الفعل تلك؟ ربّما لأنّ أكثرهم يعملون أحراراً أو شبه أحرار في بساتينهم وفي البحر ومهن أخرى. وربّما لأنّهم شاهدوا العمّال الأجانب في مواقع التنقيب فلم يعجبهم ما يفعلون، يحفرون الأرض لكن ليس لزراعتها، وليس لبنائها! وإنّما للبحث عن آثار حياة الذين مرّوا من هنا وانطمروا وأسرارهم تحتها. فكيف يتمّ تغيير الصورة السلبية للعامل في الحفر والتنقيب؟ لفعل ذلك كان لابدّ من التقرّب من هؤلاء العمال. والتقرّب يحتاج فهماً ليس عادياً لطبيعتهم، وحركتهم على تنوعها في حياتهم.

التفت الفنان التشكيلي في البعثة كارل بووفين لهذا الأمر بوعي الفنان وحساسيته في النظر إلى الطبيعة البشرية. فدعا إلى ضرورة الالتفات إلى ثقافات الناس ومنع القيام بأي سلوك يجعل تصرفات أعضاء البعثة خالية من اللياقة. وتجاوز ذلك إلى أنّه «عقد صداقات في كلّ مكان، مع صيادي اللؤلؤ، أو في البازارات أو مع الكولية». يقول الحاج إبراهيم دلال «كان يركب معي السيارة في طريقنا إلى مستشفى النعيم، يغني لي، يمازحني بكلمات محليّة ، يجعلني أضحك رغم مرضي، فيبدو لي واحداً من قريتنا كرانة». وليس ذلك بعيداً على مهندس العلاقات بيتر غلوب، الذي يتمتع بقدرات غير عادية في التواصل والإقناع واحترام العمال.

ردّة الفعل الإيجابية الأولى: بدأت مجموعة صغيرة «من الشباب اليافعين من قرية سار بالعمل معنا». هؤلاء الساريون أوّل منْ يعمل من أهل القرى في الحفر والتنقيب عن الآثار في البعثة. عايشوا الدنماركيين فصاروا يصفونهم للناس في قريتهم ولأصدقائهم. الوصف عماد السيرة. الوصف الإيجابي اعتراف بالموصوف. وهو أيضاً إقرار بغياب التساوي. يقول غلوب في كتابه: (البحرين، البعثات الدنماركية في دلمون القديمة) «بدأت الأقوال تنتشر حول حسن معاملة الدنماركيين حتى بدأت أفواج الراغبين في العمل تنهمر علينا من كلّ أبناء القرى المحيطة... وكان الجميع أصحاء البدن محبين للعمل وراغبين فيه، أصحاب خبرة في بساتين النخيل أو البناء أو صيد اللؤلؤ».

مرّت سنوات أصبح فيها العمال عين المنقبين. تراكمت خبراتهم مع دراية جيدة لاستخدام تقنيات التنقيب. يشاركونهم في الكشف عن أسرار الحياة والترويج لها. نجحت البعثة في تحقيق أهدافها وصار لأولئك العمال سيرة مهنية جديدة. لكن شيئاً منها لم ينل حقّه في التدوين والكتابة فيما يشبه التقليل من المنزلة الإنسانية لهؤلاء العاملين. الصورة الفوتوغرافية حفظت شيئاً من الاعتبار لهم. لكن الصورة، أيّ صورة تحتاج إلى الكلام عليها، لنحصل على ما يمكن أن نسميه الصورة الكاملة للمنزلة الإنسانية.

وصف

 

«طالما عشت وعيناي ملتصقتان بالأرض حيث تستقر فتنة البحث». جيفري بيبي، البحث عن دلمون/Looking for Dulmon/ ترجمة أحمد عبيدلي، دلمون للنشر، قبرص، 1985.

«تأقلم الفنان التشكيلي كارل بوفين مع الحياة العربية بصورة قوية إلى درجة شعر معها بأنّه مسلم ذو حظوة خاصة، رغم أن فلسفته في الحياة تجعله في حل من الارتباط بعقيدة دينية أو فلسفية معينة». هيننغ يورغنسن، بوفين البحرين، ترجمة محمد البندر، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، 2003.

«يتتابع وصول العاملين حتى يصل الجميع. يأخذ غلوب مجموعته إلى قلب القلعة بينما تذهب جماعة مع جيفري بيبي أسفل القلعة جهة الشمال. ومجموعة أخرى مع كريستيان وأخرى مع فرودي فيستي الذي تحول اسمه إلى «يونس». كلّهم يعملون بينما يعدّ الطباخ الإيراني الغداء للبعثة يساعده أحمد الجمري الذي يجيد التحدث باللغة الإنجليزية آنذاك». حسين المحروس، صورة بيتر غلوب في عيون أهل البحرين، مجلة البحرين الثقافية، العدد 30 العام 2001.

عاملان بحرينيان يقومان بغسل اللقيا من الخزف جوار معسكر القلعة
عاملان بحرينيان يقومان بغسل اللقيا من الخزف جوار معسكر القلعة
جيفري بيبي: العمال الأشداء ذوو الأجسام النحيلة من باربار
جيفري بيبي: العمال الأشداء ذوو الأجسام النحيلة من باربار
عامل أجنبي. وكان العمال الأجانب يتغيرون يوماً
عامل أجنبي. وكان العمال الأجانب يتغيرون يوماً
عامل بحريني. تحققت أهداف بعثة التنقيب بعد الحصول على عمّال بحرينيين
عامل بحريني. تحققت أهداف بعثة التنقيب بعد الحصول على عمّال بحرينيين

العدد 4214 - الجمعة 21 مارس 2014م الموافق 20 جمادى الأولى 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً