ارتبط مفهوم النهضة، بالمرحلة التي شهدت الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث في أوروبا، حيث أطلق على مرحلة الانتقال تلك بعصر النهضة. ويغيب في هذا المصطلح البعد الاجتماعي والسياسي، الذي صاحب الثورات التي شهدتها القارة الأوروبية.
فسياقات استخدام مفهوم النهضة، هي في الأغلب، ثقافية وفكرية، وركزت بشكل خاص على الفنون. لكن ذلك لا يقلل من شأنها، فقد كانت الأفكار التي شهدتها أوروبا، فيما عرف بالمرحلة الرومانسية، طلائع التحوّلات السياسية الدراماتيكية التي ارتبطت بالثورة الفرنسية. وقد أسهمت في تقديم رؤى ومناهج جديدة للحياة، وهيأت لانبثاق دولة الحق والقانون التي عرفت لاحقاً بالدولة المدنية، وعمادها العقد الاجتماعي.
وفي وطننا العربي، برزت طلائع النهضة العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وحمل قادتها على عاتقهم إنجاز مهمتين رئيسيتين: الأولى إحياء اللغة العربية، وبعث التراث والانفتاح على الفكر الإنساني العالمي، والثانية مقارعة الاستبداد العثماني، والعمل على تحقيق الاستقلال عنه. أما الحضارة، فقد صاحبت الإنسان، منذ عرف الاستقرار والاجتماع الإنساني. وقد عرفها ول ديورات، صاحب الكتاب الموسوعي «قصة الحضارة»، بأنها نظام اجتماعي، يهدف إلى تحقيق رخاء أكبر، وزيادة في التعمير والإنتاج.
ولا يمكن الدفع بالمشروع الحضاري إلى الأمام، من دون توفر عناصر أربعة هي على التوالي: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، ومنظومة القيم الأخلاقية، ومستوى الفنون والإبداع. ورغم تداخل المفهومين، فإنه يمكننا القول إن النهضة هي مشروع للعمل، وهي مقدمة لازمة للحضارة، كون الأخيرة هي ما هو منجز لتحسين وضع الإنسان، رغم أنها ارتبطت بالاجتماع الإنساني وبالاستقرار.
إمعان النظر في العناصر التي تشكلها، يوضح أن ليس أيٌّ منها ثابتاً، فهي جميعاً متحركة وخاضعة للنسبية. فقد خضعت منذ القدم، لتقلبات وتحولات، وما كان بالأمس حضارياً، ويعتد به قد لا يكون كذلك الآن. فالزراعة على سبيل المثال، كانت عنواناً رئيسياً للحضارة، لأنها من العوامل التي أسست لاستقرار الإنسان حول الأنهار ومنابع المياه، وتأسيس المدن، التي أصبحت عناوين يعتد بها عند تدوين تاريخ الحضارات الإنسانية.
لكن وجود مجتمعات زراعية بحتة، لا تضع حسباناً لقوانين التطور، ولا تسعى جاهدةً لتطوير أدائها بمكننة الزراعة والانتقال من حال الزراعة البدائية، إلى الزراعة الحديثة، أصبح مدعاةً لاتهام تلك المجتمعات بالتخلف والابتعاد عن عناصر الحضارة. وأصبح القياس الحضاري مختلفاً في النظرة عن سابقه، وغدا رهناً للأخذ بناصية العلم، والاندفاع عن الإنتاج المكثف والأفضل، في النوع والكم.
في عالم الاقتصاد وموارده، وقواه المحرّكة، تغيّرت الأمور كثيراً، فأصبح الاعتداد بما نملكه من مواد طبيعة، ومواد خام، من دون تحويله إلى منتج صناعي، عنصر تهمة بالتخلف عن ركب الحضارة. وكذلك الحال بالنسبة للفنون، التي تغيرت تغيراً جذرياً مع الانتقال السريع، في طرق العيش. لقد أصبحت الحاجة ماسة إلى فنون جديدة تعكس التطور الذي نحياه. فنون تستلهم من الفولكلور الموروث أشكالاً ونماذج وطرقاً جديدة.
وهكذا الحال مع بقية عناصر الحضارة، فالفنون والإبداعات، حالات يتواصل فيها القديم بالجديد ولا تستقر على أحوالها. ومع التطور الاجتماعي تبرز مفاهيم جديدة، ومنظومات أخلاقية، تجد أصولها في الموروث الفكري والأخلاقي، ولكنها لا تقف عندها. فالأسئلة لا تبقى كما هي، وكلما تغيّرت الأسئلة، كلما أصبحنا في حاجةٍ إلى تقديم أجوبة تتسق معها.
المشروع الحضاري، هو مشروع تراكمي وحاجة مستمرة إلى متابعة. شأنه شأن خطط التنمية الاقتصادية، لا يمكن إعادة استنساخها، لأنها بحاجة إلى تمثل دائم يستلهم احتياجات اللحظة .
موضوع التطور الحضاري في منطقتنا، رهن لقدرتنا على استمرار القفزات التنموية، التي ارتبطت بإنتاج النفط، والذي أسهم في نقل مجتمعاتنا من حال إلى حال. لكن المعضلة التي تواجه مشروعنا الحضاري المعاصر، هي ترافقه مع نمط الاقتصاد الريعي، الذي يأتي في شكل هبات من الأعلى إلى الأسفل. وقد خلق ذلك سلبيات كثيرة، تحول المواطن من فرد منتج، وفقاً للسياقات التاريخية، قبل الطفرة الاقتصادية، إلى عبء، ينعم بما توفره الثروة المتأتية من إنتاج النفط، من دون بذل جهد يتكافأ مع ما يحصل عليه من الموارد المالية، وأدى ذلك لنشوء ثقافة الاستهلاك. وفي ظل هذا الواقع تخلت الطبقة المتوسطة عن وظيفتها في الفنون والفكر والإبداع.
ليس هناك من مخرج لهذا الوضع، سوى توفير الشروط للتحوّل إلى المجتمع المنتج. وفي هذا السياق، سيكون على صناع القرار صياغة خطط تنموية صناعية، وتكثيف الفرص الاستثمارية للنهوض بهذا القطاع. ولن يكون ذلك مجدياً إلا بتوفير الشروط الملائمة لإنجاح عملية التصنيع. وأولها تغيير مخرجات الثقافة والتعليم، بتغيير ثقافة التلقين إلى الثقافة التحليلية والتشجيع على العلم الحق والفكر الحق، ومن ثقافة الاتكالية والخوف إلى ثقافة المبادرة والإبداع.
ولن يكون تحقيق ذلك ممكناً، إلا بإعادة الاعتبار لمفهوم التكامل الاقتصادي العربي، في عالم التكتلات الكبرى، والصناعات ذات الأبعاد الكبيرة، وليكون ذلك مدخلاً لنهوض الأمة بأسرها .
ولعل في هذا الطرح ما يعيد الاعتبار للتلازم بين وظيفة النهضة ووظيفة الحضارة. فيستمر جدل العلاقة بينهما، كما كان دائماً في لحظات الصعود، تتقدم النهضة قاطرة الفكر، لتصوغ برامج المستقبل، وتخلق الحضارة مناخات جديدة للنهوض، فيتلازم البناء والعمل، مع ارتقاء مختلف مجالات العلم والمعرفة والفنون، ضمن متصور استراتيجي عربي شامل، يهدف للخروج من النفق الراهن، وصناعة المستقبل الأفضل.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4213 - الخميس 20 مارس 2014م الموافق 19 جمادى الأولى 1435هـ