سنتناول في عدة مقالات، تناول السياسات الاجتماعية في مملكة البحرين ومدى وجود رؤية رسمية بالدرجة الأساسية لأهمية إعادة النظر في هذه السياسات في ظل الرؤى العالمية الحديثة التي تركز على استراتيجيات المخاطر الاجتماعية وكيفية إدارتها، وصولاً إلى الانتقال من السياسات الاجتماعية الرعائية والخيرية إلى السياسيات التنموية المستدامة، وبالأخص التنمية البشرية المستدامة.
ورغم أن مفهوم المخاطر الاجتماعية يربط كثرة من الظواهر والمخاطر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية والبيئية وتفاعلاتها في داخل المجتمع أو مع المحيط الخارجي في ظل عولمة أفرزت مخاطرها أيضاً بجانب إيجابياتها الكبيرة، وأن جميع هذه المخاطر وتهديداتها تؤثر على الأسرة، إلا أننا سنركز في مقالاتنا على المتغيرات والتهديدات المباشرة على الأسرة وفئات الشباب والمرأة والطفولة، وواقع سوق العمل، وإفرازاتها السلبية كالبطالة والفقر وانخفاض الأجور وهيمنة العمالة المهاجرة، معتمدين في ذلك على التقارير والإحصاءات الرسمية وبعض الدراسات العلمية التي أشارت إلى واقع السياسات الاجتماعية الراهنة في البحرين.
وحيث أن السياسات الاجتماعية التقليدية أو حتى تلك التي تستند على مفهوم «أمن الإنسان» والتنمية الإنسانية المستدامة وتسترشد بمفهوم إدارة المخاطر الاجتماعية لا يمكن لها النجاح المنشود دون وجود دعم من السياسات والبرامج الاقتصادية، فإننا سنبدأ بتحليل مختصر عن نمط الاقتصاد البحريني وتوجهاته كمقدمة ضرورية لمعرفة الاقتصاد الذي يقود ويدعم باقي السياسات الاجتماعية أو التعليمية أو الصحية وغيرها.
نمط الاقتصاد البحريني وسوق العمل
أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد البحريني هو ضرورة العمل الجاد على تغيير النموذج الاقتصادي الريعي إلى نمط إنتاجي، وحسب اعتراف الإستراتيجية الاقتصادية الرسمية (2011-2014) نفسها بأنه لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة وإنجاح سياسات إحلال العمالة المواطنة محل العمالة المهاجرة في ظل بقاء هذا النمط الريعي للاقتصاد الذي يعتمد كثيراً على العمالة الرخيصة، وخصوصاً القطاع الخاص.
إن هذا النمط الاقتصادي خلق ظاهرة وجود سوقين للعمل، سوق العمل بالقطاع الخاص المعتمد على العمالة المهاجرة الرخيصة، وسوق العمل بالقطاع الحكومي بامتيازاتها، وبالتالي فإن التحدي الثاني يتمثل في العمل على تقليص الفوارق بين هذين السوقين، وتخفيض نسبة العمالة المهاجرة، حيث أن استمرار النموذج الاقتصادي الراهن لن يحقق أي نتيجة إيجابية ملموسة في سياسات إصلاح سوق العمل، بما في ذلك احتمال فشل سياسات إحلال المواطنين محل العمالة المهاجرة، وهو الأمر الذي ينعكس بآثاره السلبية الكبيرة على الشباب والمرأة بزيادة البطالة في صفوفهما، وانخفاض مستويات الدخل والأجور وبالتالي زيادة ظاهرة الفقر.
ورغم محاولات البحرين تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على النفط، إلا أن الإحصاءات الرسمية توضح أن الاقتصاد لا يزال معتمداً على مدخول النفط، وتعترف الإستراتيجية الاقتصادية الوطنية بأن أهم التحديات الاقتصادية لتخفيض الدين العام والعجوزات في الموازنة العامة يتمثل في وضع خطط لتقليل الاعتماد على النفط كمصدر أساسي لدخل الحكومة.
وقد كشفت دراسة حديثة بأن النفط يشكل المورد الأساسي في عموم الاقتصاد الخليجي، ومنه الاقتصاد البحريني، «وأن من أبرز ما يميز إدارة إنتاج النفط وتوزيع عائداته هو خروجها عن نطاق السيطرة الوطنية، وذلك على مستوى الاعتبارات الخارجية حيث إخضاع الإنتاج لتغيرات سوق النفط العالمية وتقلبات أسعاره، والمستوى الثاني تعاطي الحكومات مع عائدات النفط، حيث تم التعامل في سنوات الطفرة عبر سياسات التدوير السريع لعوائد النفط، ما يعني الاستخدام غير المتقن وغير الرشيد لها، دون رؤية مستقبلية تأخذ في الاعتبار متطلبات التنمية المستدامة ومصالح الأجيال القادمة، ولذلك يزداد الاستهلاك وتتفشى الحمى العقارية» (حمد أحمد الريس: مقدمة حول أوجه الخلل المزمنة وسبل إصلاحها في أقطار مجلس التعاون، مركز الخليج لسياسات التنمية ـ قطر، أبريل 2012).
أما في مراحل تراجع الأسعار أو الإنتاج، فينصب التركيز على موازنة الإنفاق العام من العائدات النفطية ويكون مبرر تغطية الحجوزات على حساب أصحاب الدخل المحدود وخدمات التعليم والصحة والإسكان وصيانة البنية الأساسية.
في إطار هذا النموذج الاقتصادي فإن السياسات الاجتماعية الراهنة لن تحقق النجاحات المنشودة، وفي ظل عدم تغيير هذا النمط الاقتصادي فإن المخاطر الاجتماعية التقليدية كالفقر والبطالة والعمالة المهاجرة المهيمنة على سوق العمل وآثارها الاجتماعية كالتفكك الأسري والعنف والتطرف وزيادة ظاهرة الإسكان العشوائي وضعف مخرجات التعليم، نقول بأن كل هذه المخاطر لا يمكن إيجاد حلول تنموية مستدامة لها، فضلاً عن المخاطر الاجتماعية الجديدة الناتجة عن العولمة أو الحروب والمتغيرات الإقليمية التي أفرزت مخاطر تهدد السيادة والهوية الوطنية وتضخم الهويات الفرعية كالطائفية، والتطرف الفكري، والأزمات الاقتصادية العالمية التي تحتاج إلى اقتصاد إنتاجي قوي ومرن وقادر على الاعتماد على مصادر داخلية بدل الارتهان لأسعار النفط المتقلبة عالمياً.
والخلاصة أن النظام الاقتصادي السائد هو نظام ريعي «بني على محورية النفط وعوائده في الاقتصاد العالمي على المستوى الخارجي، وعلى المستوى الداخلي يتمركز الاقتصاد حول مبدأ الدولة الريعية، حيث تتحكم الدولة على موارد النفط وإنفاقها، بينما تسيطر طبقة نخبوية من المستثمرين على الفرص الرئيسية المنبثقة من النفط» (المصدر السابق)، ونلاحظ أن جميع خصائص الاقتصاد الريعي تنطبق على البحرين من حيث:
1.إيرادات الريع، يجب أن تأتي من أسواق خارج الدولة.
2.يجب أن يكون الريع مصدر الإيراد الرئيسي في الاقتصاد المحلي.
3.الحكومة هي المتلقي الرئيسي لإيرادات الريع المباشرة.
4.تتمحور النسبة الكبرى من نشاط السكان الاقتصادي حول استهلاك وإعادة توزيع الريع بدلاً من إنتاجه.
والنمط البديل عن النفط الذي بدأ يهيمن هو تشجيع الاستثمارات الخارجية بغرض «تنويع» القاعدة الاقتصادية واستحداث بديل للاعتماد على الريع النفطي، ولهذا النسق من التنمية الاقتصادية بريقه ولمعانة الخاص في دول مجلس التعاون، غير أن الاعتماد على الاستثمارات الخارجية بديلاًً عن النفط «يتضمن خطورة لا تقل عن خطورة الاعتماد على النفط، وتكمن هذه الخطورة في وجود تلك السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية للدولة المضيفة، ولهذه المشاريع في الواقع سلبياتها لكونها لا تخلق قاعدة اقتصادية تضمن تنمية شاملة ومستدامة وقادرة على تلبية الاحتياجات الاقتصادية للسكان» (المصدر السابق).
إن الاعتماد على السياسة العقارية وبناء المدن السياحية الضخمة أدى إلى توسع الحكومة في بيع ومصادرة الأراضي العامة، وتشجيع المستثمرين الأجانب على الاستثمار، وتسهيل الإقامة الدائمة لملاك الشقق في المناطق الجديدة من غير المواطنين، ورفع الحواجز عند استقدام العمالة المهاجرة اللازمة لبناء المدن والمناطق العقارية الجديدة، وكل هذا دون مراعاة فعلية لأبعاد وتداعيات الخلل الاقتصادي ـ ناهيك عن الخلل السكاني ـ المصاحب لهذه العمالة. ومن أهم إفرازات هذه السياسة لجوء الحكومة إلى سياسات البطالة المقنعة لتوظيف المواطنين في الأجهزة الحكومية، كحل للفشل في خلق وظائف اقتصادية منتجة عندما كان الريع النفطي يسمح بذلك.
وبشكل عام فالخلل الأساسي هو بقاء نموذج الدولة الريعية الذي «يؤسس لعلاقة مشوهة سياسياً بين السلطة والمجتمع حيث جوهرها علاقة (الراعي والرعية)، وليس علاقة مواطنين متساوين من حيث المبدأ، يضاف إلى ذلك نظرة الأسر الحاكمة نفسها في الكثير من الحالات في علاقتها مع المجتمع والأرض حيث نظرة إرث وحق خاص في المال العام وفي الأراضي وتولي السلطة التنفيذية، لاسيما ما يسمى بوزارات السيادة، بجانب النفوذ على المستوى الرسمي وحتى في القطاع الخاص، وتعزيز ثقافة شعبية بحيث يتم الخضوع الطوعي للسلطة والتكريس الذاتي لدور الرعية» (دراسة «إدارة المخاطر الاجتماعية في دول مجلس التعاون»، الدكتورة أماني قنديل، سلسلة الدراسات الاجتماعية، العدد 75ـ المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون).
الشراكة وخطورة نموذج الدولة الريعية
وحيث أن مفهوم إدارة المخاطر الاجتماعية يعتمد أساساً على الشراكة بين أطراف المجتمع (الحكومات، القطاع الخاص، مؤسسات المجتمع المدني) فإن هذا النمط الاقتصادي لن يشجع في إنجاح هذه الشراكة اللازمة، فلا يزال القطاع الخاص معتمداً اعتماداً شبه كلي على الحكومة ومناقصاتها وريعها النفطي، الأمر الذي يضعف مبدأ المساواة بين أطراف الشراكة، وغياب الندية واللجوء للتعاون في إطار الدعم الرعائي والخيري، وكذا الحال بالنسبة لمؤسسات المجتمع المدني. ذلك أن التعريف العام للمجتمع المدني يتمثل في إنه «مجتمع يعيد إنتاج ذاته كمجتمع من الأفراد الأحرار القادرين على التعاقد خارج إطار الدولة، والقادر على إعادة إنتاج ذاته خارج الدولة، وفي علاقة استقلال نسبي معها» (عزمي بشارة: في المسألة العربية، 2007). ورغم أن هذا التعريف لا يعنى باستقلالية مؤسسات المجتمع المدني عن نظام الإنتاج السائد، وإن كانت مستقلة عن الدولة نسبياً في سياساتها وبرامجها وقراراتها، بيد أن الاقتصاد الريعي يلعب دوراً ملموساً دون قيام مؤسسات مجتمع مدني قوية ومتماسكة بحيث تصبح فعلياً سلطة خامسة في المجتمع، بجانب السلطات الثلاث المعروفة (القضائية، التشريعية، التنفيذية) إضافة إلى السلطة الرابعة المتمثلة بالصحافة والإعلام الحر والمستقل، حيث يكرس الاقتصاد الريعي قيم اعتماد المواطنين على مكرمات ورعاية الدولة، وبالتالي تفتقد مؤسسات المجتمع المدني نسبياً استقلاليتها عن الدولة.
ومن جانب آخر لا يمكن أن ينتج اقتصاد مقسم بين اقتصاد الريع والقبيلة والريف مجتمعاً مدنياً، بمعنى مجتمعاً ينتج اقتصاد الدولة ويدخل معها في علاقة جدلية، والدولة تعتمد على إنتاجية مواطنيها بدلاً من مواطنين يعتمدون على رعاية الدولة لهم، ولا يمكن أن يخلق مجتمعاً تعاقدياً قوياً مؤلفاً من أفراد مقابل دولة قوية، ولذلك وفي ظل غياب الديمقراطية الحقيقية تحت نموذج الدولة الريعية أو الغنائمية، فإن المجتمع المدني يكون ضعيفاً ومفتتاً. وكما يقول عزمي بشارة: «إن تفتت المجتمع المدني يتحقق بالارتداد إلى عناصر ما دون المجتمع المدني، ما يمكن تسميتها بالانتماءات الوشائجية، بحثاً عن مخلص، كالعرق والقبيلة أو الطائفة»... و»عندما يتعرض المجتمع لأزمة طاحنة أو خطر داهم نعود إلى هذه الانتماءات (الوشائجية) التي نجد فيها الأمان والطمأنينة، أو نستعملها كأدوات لتحقيق المصالح وكسب المنافع».
واضح أن هذا التفتت والارتدادات لها بالغ الأثر في تدعيم سلطة الدولة، «من حيث إنها تشتت التيارات التغييرية وتبعثر جهودها فتضعفها من جهة، وتركز جهود قطاعات واسعة من المجتمع في الاصطفاف أو الاصطفاف المضاد في انتماءاتهم الوشائجية الخاصة حسب خلفيتهم الثقافية، نتيجةً للتربص والريبة من الجانب الآخر من جهة أخرى؛ فيظهر استبداد الدولة وكأنه الضمان الوحيد للاستقرار ويجد دعماً لشرعيته عبر هذا الباب، وبالتالي ليس غريباً أن تسعى عدد من الدول إلى سياسات تعميق هذه الاصطفافات، وبالتالي إلى إعاقة نشوء مجتمع مدني قوي، وإلى تدعيم شرعيتها عبر نشر ثقافة ما يمكننا تسميته بــ «تأزيم الاستقرار»، حيث نجد «الاستقرار» الذي تضمنه الدولة منوطاً بالحؤول دون انفجار الوضع المتأزم الناتج عن هذه الارتدادات الوشائجية الذي تنتجه بنية الدولة نفسها. وفي هذه الحالة نرى النظام نفسه يضفي شرعية على الأزمة، من حيث أن استقراره مرتبط بالمحافظة عليها وإعادة إنتاجها» (عزمي).
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 4209 - الأحد 16 مارس 2014م الموافق 15 جمادى الأولى 1435هـ