في العلاقات الإنسانية اليوم، إشكال الحضور/ الغياب. من يحضر؟ من يغيب؟ من أين يبدأ ومن أين نكتشف الحضور، والأمر نفسه يتعلق بالغياب.
العلاقات الإنسانية وهي تتجه صوب برودها، إن لم يكن اقترابها من درجة تحت الصفر. في هذا التفكّك، والانعزال، والنأي بالعلاقات عن تعميقها وجعلها منتجة وقائمة على الشعور بقيمة كل طرف وأهميته، وأنه لا قيمة لأي منهما بمنآى عن الآخر.
مفاهيم وما بعدها هي في طريقها إما إلى عدم الاكتراث بها، وإما العمل على الذهاب بها إلى الحدود التي لا يرى فيها أحد الأطراف صاحبه. لا يرى إلا حضوره هو، فيما حضور سواه أبعد وأكبر من الغياب بمراحل.
ما الغياب؟ ألاَّ ترى. ليس بالضرورة بالعين. ألاَّ ترى بالقلب. ما لا يراه القلب هو ممعنٌ في غيابه وفي الدرجة القصوى من النأي.
ما الحضور؟ أن ترى من تحب وهم في غيابهم الذي يظل رمزياً، على رغم تراكم الألم والوجع لذلك الغياب، الذي لا ينقص من الحضور شيئاً. تلك عين ترى ما بعد ما/ من تحب.
في الغياب الذي نحن منشؤه اغتراب، واستلاب للروح، ووجعٌ يكاد لا ينتهي، كلما حاصرتنا التفاصيل، ووجدنا أنفسنا نهْباً للتعلّق بتلك التفاصيل.
ثم ما الذي وسّع فجوة هذا الاغتراب في العالم اليوم على رغم اكتظاظه وحركته، سوى الغياب الذي احترفه إنسانه وعمل على تعميقه، في النفور الذي نرى، وضيق القبول والأفق الذي تتسع دائرته يوماً بعد يوم.
ثم إن كل إنسان يصنع حضوره ويؤكّده، وكل إنسان يصنع غيابه ويؤكّده. فقط بتلمّس ضرورة أن الإنسان يفقد جزءاً منه بافتقاده وفقْده الإنسان الذي هو على مرمى حس وشعور به. بمعنى أصحّ فقدانه ذاته هو بعماه عن رؤية ذوات الآخرين.
كأن إنسان الغياب وزمن الغياب في أمكنة من غياب أيضاً. غيابها بإقصاء بشرها، والإصابة بنسيانهم. نسيان متبادل ومتواتر وفي ازدياد لا نقصان.
ولا كتابة تتتبَّع ذلك المعنى في قيمته، ذهاباً إلى النثر، تورّطاً بالشعر كنص «في حضرة الغياب» للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. كأنه يلمس الغياب، حاسة حاسة، وأنفاساً أنفاساً، وملامح ملامح: «ستروي إلى لا أحد واضح الملامح: لم يكن لنا من عدو، وقتئذ، إلا الضوء والصوت. ولم يكن لنا، ليلتئذ، من حليف سوى الحظ، ينهرك صوت الخوف الخفيض: لا تسعل أيها الولد، ففي السعال دليل الموت إلى مقصده. ولا تشعل عود الثقاب، أيها الأب، فإن في بصيص نارك الصغيرة إغواء لنار البنادق».
لا في حيّز العدو والحليف وحسب. إنه الغياب القادر على امتداد العداوة تلك من داخل الإنسان إلى محيطه في الخارج. وهو الحليف الذي يثبت جدارته بنقيض النسيان: نفياً للغياب، وعلى أقل تقدير الوقوف على مسافة لا تجعل الكُلف باهظة حين يدخل الإنسان عميقاً في غربته واغترابه. إنه النسيان سيد الوحشة الأبدية!
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4209 - الأحد 16 مارس 2014م الموافق 15 جمادى الأولى 1435هـ