كأن تجربة «لمس» هنا محاولة للدخول في حال المكفوف. استجلاء لمراتب الحاسة تلك. ثمة منازل ومراتب لكل حاسة من الحواس، من بينها اللمس. ليس كل لمس لمساً. ليس كل التحام التحاماً. ثمة لمس في نفور يأخذ بك إلى النأي. لمس يقرر انفصالاً. كأن للحاسة تلك عيناً بل أكثر من عين!
كأن «لمس» هنا، وهو كذلك، مداورة بين القبض والبسط. قبض على الحال وتمثلها، وبسط للمعنى وما وراء المعنى في الوقت نفسه. قبض للعصي على القبض. وبسط الحواس في حضرة «اللمس».
***
النصوص توزعت على فصول، كل فصل تتصدّره آية من القرآن الكريم... نقرأ: «كل لمسة من يديكَ... بداية نهر مرتعش».
وضوح الشعر لا يعني بالضرورة مباشرته. يعني فيما يعنيه إضاءته، والإضاءة إدهاش. لا يندهش ذو الحس من سخيف الأشياء والمواقف والنص. إنه يرتعد لحجم السخافة فحسب. دهنيم تذهب إلى وضوحها وخصوصاً في تجربتها الأخيرة. الذهاب إلى الوضوح إشاعة للإضاءات... ما تحت الضوء مدهش... كل ما يبعث على الدهشة فيه شيء من طين وروح الشعر. الشاعر يستوي على موهبة خلقه في المخيلة... في القبض حيناً والبسط حيناً آخر.
نقرأ في زعفران النسيان: «أبسط لك الحضنَ دافئاً... فتملأه بالعواصف».
الحضن بيت اللمس ومأواه... مختبره... الدفء طمأنينة ذلك البيت... الممتلئ حضور... القفْر غياب... العواصف تعيد صوغ كل ذلك... تصوغه بالتخريب ربما وربما بالنسف. يكشف ذلك عن مخيّلة منظمة وأحياناً لا تستريح إلى ذلك فتعمد إلى ما تراه أكثر تنظيماً وجمالاً: اللعب على التناقض بوعي وإدراك وقيمة ومعنى مكتنز!
وفي الفصل الثاني نقرأ: «أيها الماء: ماذا تفعل بأجسادنا حين تلامسها؟ آن لك أن تعترف»!
ليست الحاسة (Vاللمس) وحدها الحاضرة في ذلك الاستواء على النص... التدفق... الوضوح في إدهاشه... اللغة في فطرتها... الأشياء هي الأخرى تظل حاضرة، من الأجساد إلى الماء... للماء ملامسته، وللأجساد ملامستها أيضاً. تلك المؤاخاة الأزلية... النبيلة.
«كاحِلها مايسترو يدرِّب خلخالها على الرقص.. غجرية يداعبها الخلخال... فتصفّق لها العيون».
وأجمل الشعر ذلك الذي لا يهمل التفاصيل، يمنحها الفضاء ولا يُسْلمها إلى الهامش. قدرة الشعر على جعل الأشياء والتفاصيل البسيطة هي المحور. هي رحى الفعل الخلّاق: الكتابة/ الشعر. أن تقول تلك الأشياء كما وكمن لم يسبقك إلى الرصْد والقبض وحتى البسط أحد. من المايسترو الذي يصوغ من أول الإيقاع سمفونيته عبر نص الجسد، إلى العيون التي لا تقوى على ذلك فتستعير حواساً إضافية، وهذه المرة على متاخمة مع اللمس وما بعده: التصفيق!
هندسة حس هي النصوص. تمثل للغائب الحاضر. صوت وليست صدى للمهدور والمؤجّل يتم استحضاره بنزيف الأعصاب ووحْشَة التأمل في نأي وغربة بل غربات تصحو في الروح.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4207 - الجمعة 14 مارس 2014م الموافق 13 جمادى الأولى 1435هـ