وعند اختلال تلك العلاقة بين المتلقي والناقل تبدأ بعض المشاعر العدوانية في الظهور ما يفسد الهدف من توصيل تلك الرسالة. كما تعكس دقة وعمق معرفة الملقي صورة جيدة تحفز المتلقي للثقة به ومن ثم تقبل الرسالة. أما إذا كان الملقي لا يملك تلك القدرة فعليه أن يوصل رسالته عبر أفراد يمتلكون ثقة مجتمعهم كرجال الدين.
ولضمان جودة الأداء الصحي لابد من تفعيل برامج الوقاية الصحية التي تستهدف جميع مستويات الهرم السكاني. ولعل التوسع الأفقي للرعاية الصحية الأولية هدف تسعى إليه جميع الأنظمة الصحية، لكن يظهر سؤال على السطح لتعكس الإجابة عليه مدى فعالية تلك الخدمة وهو التناسب في حجم الرعاية الصحية المتخصصة والرعاية الصحية فائقة التخصصية مع حجم الرعاية الأولية.
فإذا كان جميع أو أغلب عناصر المجتمع تستهلك تلك المستويات من الرعاية فهذا يعني أن مستوى الرعاية الأولية قد سمح للهرم السكاني أن يتسع في القمة ولم يراعِ اجتثاث وتعديل بعض السلوكيات ومحو بعض الأمراض المزمنة التي تحتاج معالجتها أو معالجة مضاعفاتها إلى عناية صحية متخصصة وبالتالي ارتفع العمر المتوقع للأفراد وارتفعت معدلات الإصابة بالأمراض والمضاعفات المرضية واتسع نطاق جميع مستويات هرم الخدمات الصحية، ما يؤدي إلى تشتيت أهداف وواجبات كل شريحة من شرائح هرم الخدمات الصحية. ولعل داء السكري هو أحد تلك الأمثلة. فمعدلات الإصابة بهذا الداء صارت تتصاعد بصورة تتطلب التوقف واعادة تقييم أداء وفعالية أنظمة الرعاية الأولية. ولنا أن نعرف أن معدل الإصابة بداء السكري في منطقة الشرق الأوسط قد ارتفع إلى 15 في المئة وفي بعض دول الخليج ارتفع ليصل إلى قرابة 25 في المئة.
وعندما نحسب مقدار ما يمثله المال والجهد والعناية بهذا الداء من جملة مصادر الصرف الصحي، ولنا أن نتصور حجم الخسارة التي يتكبدها المجتمع من جراء خروج هذه الشريحة (المصابين بداء السكري) من نطاق القوة البشرية المنتجة. وعند ظهور المضاعفات المستقبلية لهذا الداء تبدأ رحلة استهلاك الخدمات الصحية التخصصية والتخصصية فائقة المستوى ويكفي أن نعلم أن داء السكري هو أكثر أسباب العمى شيوعاً ويحتل رأس قائمة الأسباب المسببة للفشل الكلوي المزمن، ويصنف من ضمن الأسباب المهمة لامراض القلب التاجية وأمراض الشرايين الطرفية واعتلال الأعصاب والقائمة تطول لتعداد المضاعفات المزمنة لداء السكري، لكن الصورة تختلف تماما إذا تم تفعيل برامج الوقاية على مستوى الرعاية الصحية الأولية وتمت العناية بتوصيل مفهوم «الوقاية خير من العلاج».
ويعتبر البحث الوبائي والتحليل الإحصائي من ضمن أسلحة الرعاية الصحية الأولية الفعالة لتحديد حجم المشكلة وأسبابها وارتباطاتها العائلية، البيئية والوراثية.
إن السعي لإنشاء شبكة من عيادات السكري ترتبط في ما بينها وتلتقي جميعها في مركز رئيسي لأبحاث ودراسات السكري تمثل الدرع الواقي لمقاومة تسرب هذا الداء على أن تمد هذه العيادات المركز الرئيسي بتقارير ربع سنوية حول داء السكري في المنطقة التي توجد فيها ويتم التنسيق لمؤتمر سنوي للقائمين عليها لمناقشة المشكلات التي تواجهها كل عيادة، كما تقوم كل عيادة بتقديم دراسة عن إحدى المشاكل التي واجهتها وكيفية حلها لتكون خبرة مقدمة لباقي العيادات.
لعل هذه المنظومة الصحية ستكون البنية الأساسية والرافد العظيم لقاعدة بيانات داء السكري ومرضى داء السكري بحيث يصبح الحلم في أن يحمل مريض داء السكري رقماً صحيّاً يتعامل به في عيادات السكري كافة على مستوى العام حلماً أقرب إلى الواقع من الخيال، ويكفي أن يدخل الطبيب المعالج رقم المريض الصحي في جهاز الحاسوب ليخرج جميع المعلومات الطبية حول المريض وسجل المتابعة الخاص به ليس في منطقته فحسب بل في كل مكان وجد فيه المريض و تلقى فيه الخدمة الصحية.
ولا تخفى الفائدة الكبيرة من مثل هذا النظام حيث يمكن بواسطته التقنين الكامل لصرف الدواء، والمتابعة الفعلية لانسياب الدواء، كما يمثل هذا النظام ثروة من المعلومات الصحية تسمح إجراء أنواع الدراسات البيئية كافة.
ولعل عدم تداخل دوائر الخدمات الأخرى مثل التربية والتعليم مع دائرة الرعاية الصحية من أهم الأسباب التي تجعل فئات المجتمع جزراً متباعدة يحتاج كل برنامج خدمي يستهدف أية فئة إلى وضع قواعده وسياساته التي قد تتداخل أو تتعارض مع قواعد وسياسات الخدمات الأخرى، لكن التنسيق بين واضعي برامج الخدمات الأخرى يساعد كل مجموعة على وضع القواعد التي تساعدها على إنشاء وتفعيل برامجها المختلفة، ولعل أهم تلك البرامج هو برنامج الوقاية الذي تطبقه دائرة الخدمات الطبية بالرعاية الأولية.
وهكذا فان عدم الدقة في وضع ورسم سياسات الخدمة الصحية خاصة إذا لم يصاحب بتطبيق جيد لتلك السياسات وتقييمها بصورة مستمرة في مختلف فئات الهرم السكاني، فإن النتيجة الحتمية هي إهدار الموارد الصحية وتآكلها بمرور الوقت وحصر الخدمة التي تقدمها الرعاية المتخصصة والرعاية فائقة التخصصية في إصلاح أخطاء الرعاية الأولية.
إقرأ أيضا لـ "فيصل جعفر المحروس"العدد 4206 - الخميس 13 مارس 2014م الموافق 12 جمادى الأولى 1435هـ