الأحداث التي تشهدها أوكرانيا تشبه إلى حدٍّ ما ثورة بركان خامد من حيث طبيعة مسارات تحركها والعوامل التي أدت إلى انفجارها وتشكّل الجوهر المؤسس لانتفاضة الشعب الاوكراني بمختلف مكوناته، الذي سئم جبروت وقسوة فئة مستبدة استحوذت على مقدرات المجتمع وحرمته من أبسط الحقوق الانسانية.
ليس هناك خلافٌ على أن القوى التي كانت حاكمة حتى وقت قريب وصلت إلى سدّة الحكم عبر الوسائل الديمقراطية، ولكن ينبغي تبيّن مدى مصداقية وشفافية النهج الذي ارتكزت عليه للتمكن من السيطرة على مقاليد السلطة السياسية. هنا ينبغي تبصّر فنون الانقلابات الحديثة في عالم السياسة، وهل ما جرى استثماره للوصول إلى السلطة يجسّد النهج السليم من حيث المضمون والجوهر لمبادئ وقيم الديمقراطية.
الشعب الأوكراني في الأساس مجتمع فلاحي، وتتكون الغالبية العظمى لتركيبته السكانية من الفلاحين البسطاء والفقراء الذين يسهل استغلالهم، وذلك ما جرى استثماره في تنفيذ أغراض ضيقة باسم الديمقراطية، من خلال استغفال المجتمع البسيط باستخدام وسائل الدجل السياسي تارةً، وظروف عوز البسطاء وفقرهم تارةً أخرى لخداعهم وشراء أصواتهم للتمكن من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع.
المؤشر الآخر الذي ينبغي تسجيله كمدخل مهم في معالجة واقع الأحداث، يتمثل في أن الغالبية العظمى من الشعب كانت محبطةً من مخرجات العملية الديمقراطية نتيجة سيادة نهج الوصولية السياسية الذي اتبعته الأطراف الرئيسة اللاعبة في الساحة السياسية منذ تكوّن الدولة الأوكرانية الحديثة بعد انهيار النظام السوفياتي في بداية تسعينيات القرن الماضي.
وتشير الأحداث ضمن منظومة المتغيرات السياسية وتبادل الأدوار من قبل الأطراف المختلفة في ألوانها السياسية والقومية، إلى الاستغلال المتبادل في استثمار البسطاء والقوى المغلوبة على أمرها في الوصول إلى منصة القيادة السياسية، والعمل على تعضيد نهج الفساد وسرقة الثروات الوطنية.
إن عدم التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ليس السبب الفعلي للأحداث في أوكرانيا، بل إن خيبة أمل المجتمع الأوكراني في الحصول على حقوقه المشروعة في العيش الكريم والأمن، يشكّل المنعطف التاريخي الذي تسبّب في انفجار الأحداث، والدافع الفعلي الذي جعل الشعب ينتفض بعفوية ويتشبث بقشة للنجاة من الغرق في التوجه إلى الغرب لاستجداء الدعم، وهو الخطأ السياسي والاستراتيجي الذي استغلته القوى الغربية لنقل صراعها مع روسيا إلى الساحة الأوكرانية لإضعاف موقف الأخرى في الصراع الدولي المحتدم على مواقع النفوذ، للتمكن من عودة هيمنتها على القرار الدولي. وذلك أيضاً المنعطف الذي استغله سماسرة السياسة في الساحة الأوكرانية للتمكن من جديد من اعتلاء منصة القيادة السياسية، وذلك حساب خاطئ يشير إلى الغباء في فهم معادلة الصراع الدولي على مناطق النفوذ الحيوية.
ضمن تعليقنا على مقال الكاتب في صحيفة «الخليج» الاماراتية المنشور بتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الأول 2013، تحت عنوان «أوكرانيا وربيعها»، جرى التأكيد على أن مجريات الأحداث تشير إلى أن القوى المتصدرة لقيادة انتفاضة الشعب الأوكراني «لا تضع هدفاً لاستراتيجية التغيير الديمقراطي وتصحيح الواقع الإنساني والمعيشي للمجتمع الأوكراني، وأن ذلك ما هو إلا محاولة لتحريك أيقونات الشطرنج في ساحة السياسة العالمية، التي صارت تعيش حالةً من الارتباك بعد أن كانت تتحرّك وفق مسار واحد.
نعم النظام الذي كان قائماً في أوكرانيا ليس الأصلح وليس هو المطلوب الذي يبتغيه الشعب الأوكراني لقيادته إلى بر الأمان والعيش الكريم. كما أن ما تشهده شوارع أوكرانيا ليس ما يطمح إليه الشعب الأوكراني، فهذه الفئة كانت في قمة القيادة وماسكةً بزمام الإدارة السياسية، وأغرقت البلاد في الفوضى وزادت الفقراء فقراً.
المشكلة أن أوكرانيا كما السفينة التائهة التي ضلّت طريقها في عرض المحيط، ويتحكم في قيادتها قراصنة البحر، وليس لذوي الحكمة والعقل الراجح فرصةٌ في الإمساك بدفّة القيادة، وتلك معضلة حقيقية، فإذا لم يتمكن العقلاء وأصحاب اليد النظيفة من اعتلاء منصة القيادة فمن الطبيعي أن تبقى السفينة تعوم في المجهول ولن تبصر المرسى المأمون».
يمكن القول إن القوى البارزة في مسرح الأحداث ذهبت إلى المحظور في عالم السياسة الحديثة، وذلك ما لن تسمح به روسيا من إعطاء فرصةٍ لأوروبا وحلف «الناتو» بأن يقيما المتاريس في ساحة نفوذها الحيوية. كما لا يمكن لها أن تذهب بعيداً في حلولها العسكرية حيث أن ذلك أيضاً يشكّل مصدر قلق، والذي هو موجودٌ بالأصل لدى الأوكران المتشددين في المناطق الغربية من أوكرانيا، والحل العسكري من الطبيعي أن يساهم في تقوية وجودهم، خصوصاً إذا ما أدركنا حقيقة أن الروس مقتنعون ضمناً بالأخطاء التي ارتكبها الرئيس المعزول وسياساته التي حوّل بفعلها أوكرانيا إلى بؤرةٍ للفساد ومصادرة الحريات والاستحواذ على مصالح المجتمع الاقتصادية وسرقة ثروات البلد وتحويل المجتمع الأوكراني إلى مجتمع فقير.
لذلك فإن ما نشهده من مناورات عسكرية ليس هو المفيد والمطلوب لحلّ المعضلة القائمة لبناء أسس الثقة المتبادلة وحسن الجوار، التي يحتاجها الشعبان الروسي والأوكراني في بناء علاقتهم الاستراتيجية في المجالات الاقتصادية والتنموية والجيوسياسية، والتي يمكن أن تسهم في التغيير النوعي لتطورهم الحضاري.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 4206 - الخميس 13 مارس 2014م الموافق 12 جمادى الأولى 1435هـ
مقال رائع
مقال رائع ينسحب تماما على ما يحدث على الأرض العربية من صراعات قبلية وطائفية وفوضى والتي أساسها المطالب الشعبية بالحقوق المهدورة والمسلوبة بفعل التدخلات الأقليمية والدولية لتغيير مسار الأحداث وغياب تام لتأثير الصوت الديمقراطي وسيادة العقلية الطائفية والمذهبية
مقال ممتاز سيد!!
شكراً للسيد الوداعي على هذا التحليل الواقعي للحالة الأوكرانية.. مسكين الشعب الأوكراني لم يكن يتوقع أن خروجه للمطالبة بحقوقه المسلوبة سيفتح شهية الغرب المنهك إقتصادياً لتصفية حساباته مع روسيا الصاعدة والتي - أي روسيا- يستحيل أن تسمح لغريمها أن ينعم ويتجول في حديقتها الخلفية!! من الغباء والمغامرة الغربية التصادم مع روسيا التي تستطيع تجميد شعوب الإتحاد الأوربي بقطع الغاز أو مجرد التهديد بقطعه!! ينبغي للعقلاء في أوكرانيا الجلوس مع الروس والتفاهم.