العدد 4205 - الأربعاء 12 مارس 2014م الموافق 11 جمادى الأولى 1435هـ

يوم وداع التجارة... لميقات يوم معلوم

السفير تقي البحارنة يروي سيرته في سلسلة «حينما كنت سفيراً»: (5)

اجتماع اتحاد غرف امارات خليج العربي 1969
اجتماع اتحاد غرف امارات خليج العربي 1969

يجول الأديب تقي محمد البحارنة بنا في هذه الفصول التي كتبها بوهج محطات الحياة العابقة في الذاكرة، متنقلاً بين التجارة والسلك الدبلوماسي، ليقف بنا معه في تلك المحطات بفصلها الأول متحدثًا كأول سفير وأول سفارة للبحرين... أليس ذلك رائعاً؟

في الذاكرة، مسارات عديدة ضمن العمل في السلك الدبلوماسي... مع قادة وشخصيات في ترحال ضمن توقيت زمني متعدد بين عالم التجارة والأدب والعمل الدبلوماسي بين البحرين والقاهرة وبغداد ولبنان... ووجهات عديدة أخرى نجدها براقة في هذه الحلقات:

كانت طائرة «طيران الخليج» صغيرة لا تتسع لأكثر من سبعة مسافرين، وحين ألقيت بصري من نافذتها على مدينة أبوظبي، لم أرَ إلا صحراء قاحلة ومجموعة بيوت متواضعة بعضها من الطين وقلعة ومطار لا يكاد يرى من كثرة التراب والغبار المتصاعد، ونزلنا من الطائرة ونحن نكمم أفواهنا من كثرة الغبار إذ لم يكن للمطار مدرج معبد أو مسفلت، ودلفنا إلى بناء بسيط يشبه المقهى الشعبي بكراسيه الطويلة وفيه حجرتان للجوازات والجمارك.

قلعة «الحصن»... أبوظبي

وقتها، استقبلنا شريك المستقبل بوجه ضاحك بشوش وترحيب يدل على خلق الضيافة المتأصلة عند العرب عموماً، وركبنا معه سيارة (البيك آب) الصالحة لشق طريق في بحيرة من الرمال. وأشار إلى قلعة أبوظبي وتسمى بالحصن وقال: «هنا مكتب ومجلس الشيخ شخبوط حاكم أبوظبي، وهو حاكم لا يفرّق بين رعاياه ويستقبلني دائماً بالترحاب ويعهد إلي بمشترياته الشخصية ويدفع ثمنها لكنه شديد الحساب».

ثم روى لنا عن الشيخ شخبوط قصة طريفة وقال: «طلب مني الشيخ شخبوط يوماً أن أذهب إلى البحرين وأشتري له ساعة جيب ماركة (راسكوب) من محل عبدالرسول الزيرة بالاسم ففعلت، وبعد أكثر من سنتين سمعت طارقاً بالباب ليلاً ونحن نيام وإذا بشخص من خدمة الديوان وفي يده تلك الساعة وهو يقول: «هذه الساعة وقفت ولابد أن فيها ضماناً، ويطلب منك الشيخ شخبوط إرجاعها على البائع لكي يعوضك عنها بأخرى جديدة بلا مقابل»، أجبته - وأنا أتثاءب وأكتم ضحكي - على العين والرأس، ثم أضاف «ألقيت الساعة في الصندوق واشتريت له ساعة جديدة من دون أن يعلم بذلك، وقدمتها للشيخ وهو في مجلسه فنظر إليّ بإعجاب واستدار للحاضرين قائلاً: «ألم أقل لكم إن فلاناً رجل أعمال شاطر (ما في أحد يقدر يقص عليه)... أي يستطيع أن يخدعه».

شجرتا كنار من البحرين

وصلنا منزله عند الظهيرة وسرعان ما جهز لنا مائدة غداء دسمة دعا لها الأقرباء وبعض الأصدقاء، ورغبت في الذهاب إلى دورة المياه والتوضؤ للصلاة، فانتفض مسروراً وقال: «عندي في هذا المنزل ما لم يحظَ به غيري إلا القليل، فلقد أعطاني الشيخ أذناً ببناء بيت خلاء في المنزل وذلك من كثرة محبته لي، أما باقي الناس فسبيلهم إلى شاطئ البحر لقضاء الحاجة»، ثم وقف متفاخراً وهو يقول: «في هذه الصحراء القاحلة أنا من القلة الذين في بيوتهم شجر... عندي شجرتان من «الكنار» جلبتهما من البحرين وأسقيهما من الماء العذب الذي اشتريه بثمن غالٍ من مصفاة تكرير المياه الوحيدة التي يملكها الشيخ... ولكن يا خسارة، فإن الشيخ شخبوط قد أمر بإزالة جميع البيوت قرب السوق ومنحني أرضاً خارج السوق ولكن من دون ورقة ملكية بنيت فيها بيتاً جميلاً ولو أنه بماء البحر، ولكنني مع ذلك متعلق بهذا البيت وهاتان الشجرتان وسأنقلهما بعناية إلى المنزل الجديد، وبذلت جهدي أن أكون آخر من يهدمون منزله، واليوم هو موعدي الأخير»، ثم أهاب بنا إلى تناول الغداء، وقد استضافني الشريك في منزله الجديد مراراً فيما بعد وفي كل مرة كان يأخذني إلى تينك الشجرتين وأتذكر في ظلالهما موطني البحرين، كما أتذكر تلك الرّمال الحارقة بين منزله ومكتب شركتنا البعيد نسبياً وصعوبة الغوص في تلك الرمال مشياً على الأقدام.

آلات تهدم وقت الغداء

وهكذا باشرت آلات الهدم تقويض المنزل ونحن نلتهم غداءنا التهاماً وحين وصل الهدم إلى المجلس ونحن فيه، لجأنا للفرار وأحذيتنا بأيدينا ! في زيارتي هذه لم يكن في أبوظبي فندق للزائرين، وكانت شركة اتحاد المقاولين من لبنان (سي.سي.سي.) قد شرعت في بناء فندق حديث نوعاً ما باستعمال مياه البحر المالحة لعدم توافر المياه العذبة، وحين تم بناء الفندق فيما بعد، تهافت عليه الزائرون والمستثمرون بحيث إنه لجأ إلى تركيب «كابينات» إضافية جاهزة لمواجهة الطلب المتزايد على رغم ارتفاع الأسعار، وتجاوز سجل الحجز المقدم حاجز الستة شهور.

بعد فرارنا من الدار، بدأنا نتجول في السوق على بعد خطوات وذلك انتظاراً لموعد رحلة الطائرة عند المساء.

كانت سوقاً صغيرة تحتضن ما يسمى في الخليج «سوق واقف» وهو فضاء مكشوف لبيع الإبل والمواشي والأغنام والدواجن، وإزاءها فرشات على الأرض لبيع الخردوات (الأغراض المستخدمة وبعض المستلزمات المنزلية)، ودكاكين لبيع لوازم المواشي من أسرجة وما شابه ولوازم البحر من حبال وأشرعة وصواري ولوازم البناء وغيرها.

روائح التاريخ في السوق

والقسم الثاني من السوق تشم منه روائح التاريخ... سوق طويلة بسقف عادي ودكاكين متلاصقة ومتقابلة بينها ممر ضيق على غرار ما كان يسمى قديماً بسوق «القيصرية» لولا أنها سوق صغيرة من خط واحد، وبقايا مثل تلك السوق لاتزال موجودة في معظم المدن العربية المشرقية منها والمغربية، ومثلها سوق في بغداد يسمونها سوق «الشورجة» وأهم السلع في تلك الأسواق هي الألبسة والمنسوجات والمصنوعات من الجلود وبعض اللوازم المنزلية، وكان لنا في سوق الشورجة ببغداد بعض الأقرباء يبيع المنسوجات وكنت أزوره فيترك محله مفتوحاً ويرافقني للصلاة والغداء أو لبعض شئوني.

وكنت أستغرب منه عدم إقفال دكانه فيجيبني مبتسماً ويقول إن عندنا تقليداً قديماً متوارثاً، فحينما يأتي أحد عملائي للشراء ويذهب إلى أحد الجيران ويعرفون أنه من عملائي، يقفز الجار إلى دكاني ويبيعه من بضاعتي ثم يحتفظ لي بالثمن... كان أسفي كبيراً حينما أزيلت هذه السوق التراثية في أبوظبي، وذهب أهلها من العرب وذهب معهم التراث والتقاليد، وتحولت فيما بعد إلى ما يسمى بـ «السوق الشعبية»، وهي في أغلبها أسواق عشوائية لا مظهر فيها للتراث ولا التقاليد، جل أصحابها من الأجانب ممن لا يجيد التكلم بالعربية.

تكاثرت الظباء على خراش...

وآخر قسم في سوق أبوظبي، القديمة في تلك الزيارة... دكاكين كبار التجار وأصحاب الأعمال والنفوذ والمستوردين من الخارج، وما كانوا ليتعدون خمسة أسماء أو ستة يحتكرون شركات التجارة والصناعة والأدوية وشركات المقاولات والمشاريع الحكومية وكل ما يمكن احتواؤه من أنشطة تجارية وخدمية تحت سقف واحد وبأسماء متعددة، ولما (تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد)، وجد البدو وأفراد القبائل في الشراكة والكفالة مصدراً سهلاً ميسوراً للثراء، فلم يكن مسموحاً لأجنبي تسجيل شركة أو فتح حساب مصرفي باسمه إلا مع شريك محلي. تعرفت من بين تلك الأسماء الكبيرة - بمحض الصدفة - على الوجيه سعيد أحمد العتيبة. أشار إلينا بيده ونحن مارين إزاء مكتبه فدخلنا وسلمنا وبعد أن تعرف علينا خاطبني بلهجة صديق. وأخذنا الحديث إلى التاريخ والأدب والشعر، فإذا به من المغرمين بكل ذلك وطالت بيننا المساجلات حتى غفلت عن موعد الطائرة. لولا إشارات خفية من الأصدقاء فودعناه واتجهنا للحاق بطائرة العودة.

ثعلب أو ضب عوض الظبي!

ما بين هذه الزيارة في أواخر العام 1966 وبين العام 1971 التي جئت فيها لتصفية الأعمال تغيرت فيها مدينة أبوظبي، واكتست زراعة وعمراناً، أما مدينة العين وكان لنا فيها فرع تجاري، فلم تتغير بذلك المقدار، ما عدا الطريق المسفلت وحوادث السير المميتة التي تقع عليه بين يوم وآخر بسبب حركة الرمال الناعمة على سطحه ومن جانبيه وكأن بين الجانبين رهاناً، وكذلك لعدم وجود الإضاءة، ولكنّ أخطر ما في الطريق هي الجمال السارحة التي ترتطم بالمركبات وتدخل برأسها وجسمها إلى سائق المركبة ومن معه فتقضي على من يكون الموت قدره المحتوم.

وفيما عدا أيضاً مستشفى العين الذي كان يديره موظف كان يعمل في مستشفى النعيم في المنامة، واسمه عبدالله، وكنت أستريح عنده من وهج النهار وحمى تحصيل الديون، كما كان يدعوني بكرمه إلى منزله وإذا طلبت منه لصغاري ظبياً صغيراً مما عنده من مستأنسات، قدم لي بدلاً منه ثعلباً أو ضبّاً! وكانت للثعلب ومكره معي قصة أوحت لي بقصيدة طريفة مسلية، ولكن مدينة العين تشرح النفس، فبجوارها، بساتين ومزارع واحة البريمي بقنوات الرّي وتقاليد مزارعيها من أهل عمان وهي على شكلها التراثي القديم.

«ذوب» التقرير في البحر

وتمتد كثبان الرمال الصحراوية إلى جوانبها الأخرى حاملة صفاء البادية وسحره احينما يرخي الليل عليها سدوله، كما أن سيد أبوظبي وحاكمها المرحوم الشيخ زايد بن نهيان كان يضرب خيامه فيها، ويستقبل الزائرين ورجال الأعمال ومعظمهم من الأجانب في وقت متأخر من الليل...

ست سنوات مرت على زيارتي الأولى تعلمت فيها الكثير عن سيرة الأعمال وأسرار النجاح في إبرام الصفقات الكبيرة وكثير منها لا يتناسب مع مسلكي في التجارة ولو أدى ذلك إلى الخسارة، وهو ما حصل بالفعل حينما واجهت شريكي بتقرير مدقق من قبل شركة محاسبة مشهورة، وكان جواب الشريك: «ذوب هذا التقرير في البحر... نحن معشر الشركاء المحليين، داخلين في الربح خارجين من الخسارة حتى من دون رأسمال... ثم طالبني بمبلغ للتعويض عن خدماته المزعومة واضطررت لتحقيق رغبته».

حينما ركبت الطائرة عائداً إلى البحرين لمباشرة مهمتي الجديدة، زارني من جديد شيطان الشعر فكتبت هذه الأبيات وفي مقدمتها قول حكيم:

(طوبى لمن جعل المال في يده لا في قلبه)

عدّ النقود بكفّ متئد

وأضافها عدداً إلى عدد

حتى اطمأن... فقال مبتسماً

أنت ابن عمّي أنت من بلدي

لا تنشغل بالمال تجمعه

فتعيش زهو العمر في كمد

ومشيئة الرحمن قد كتبت

للمال تنقله يد ليد!

قد كنت «مستوراً» وفي رغد

وغدوت «ميسوراً» وفي نكد

خير من الأموال أسرة

وصداقة تبقى إلى الأبد

خسئ الحسود.. فحبنا قدر

يسري بنا كالروح في الجسد

وأضاف كالمذعور، في حذر

مستدركاً ما قال... في جلد

لكنّ حقي لا أضيعه

لا شأن لي بالخلّ والولد

أياك تتركني بلا مدد

فالود لا يصفو بلا مدد

ثم استدار، وقال وا أسفي

قل الوفاء، وثروتي سندي

أهلي وصحبي فيهم حسد

والله يحفظني من الحسد

قالوا: بخيل – في ملامتهم

والكفّ في المعروف غير ندي

تباً لهم... يغرونني سفها

لتصير أموالي إلى بدد

أنيّ وحقكّ – فوقهم رصد

فليحذروا من صولة الأسد

الله أكرمني بنعمته

يا قاسم الأرزاق... خذ بيدي

العدد 4205 - الأربعاء 12 مارس 2014م الموافق 11 جمادى الأولى 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً