يجول الأديب تقي محمد البحارنة بنا في هذه الفصول التي كتبها بوهج محطات الحياة العابقة في الذاكرة، متنقلاً بين التجارة والسلك الدبلوماسي، ليقف بنا معه في تلك المحطات بفصلها الأول متحدثًا كأول سفير وأول سفارة للبحرين... أليس ذلك رائعاً؟
في الذاكرة، مسارات عديدة ضمن العمل في السلك الدبلوماسي... مع قادة وشخصيات في ترحال ضمن توقيت زمني متعدد بين عالم التجارة والأدب والعمل الدبلوماسي بين البحرين والقاهرة وبغداد ولبنان... ووجهات عديدة أخرى نجدها براقة في هذه الحلقات:
استقبلني وزير الخارجية الشيخ محمد بن مبارك ببشاشة وجهه المعتادة وطلاقة لسانه، وكنت أريد سؤاله عن أسباب اختياري لمهمة السفير ـ لكنه بادرني بالجواب قبل السؤال... وبعد مرور أكثر من 43 عاماً، لا يمكنني استعادة كلامه حرفياً ولكن مضمون كلامه ثابت في الذاكرة... قال لي ما فحواه: «نحن كحكومة نعرف عن قدراتك الكثير وأنك تصلح لمهمة أول سفير وأن تنشئ أول سفارة للبحرين، وأنت موضع ثقة الجميع»، ثم أردف القول: «يا أخي، (وما أحلى هذه الكلمة التي تزيل الكلفة وتفتح نافذة على القلب، وهي من خلق وطبع الشيخ عيسى بن سلمان كذلك)... أنت تعلم وضع مالية الدولة وحرصها على النفقات، وما يترتب على الاستقلال من أعباء مالية، وأنا أفضّل بالإضافة إلى المؤهلات والتجارب - أن أختار سفيراً يعرف قدر المال ومتعوداً على تداول الألوف ومئات الألوف من الدنانير - على آخر لا يملك غير راتبه الشهري لا سيما في مجال إنشاء أول سفارة للبحرين» (وللعلم فقد كانت الموازنة المالية الرسمية للبحرين في ذلك الوقت في حدود 29 مليون دينار فحسب)، ثم سألته إن كانت تكفيني ستة شهور فأجاب مبتسماً أن استطعت أن تكوّن سفارة وتشتري منزلًا في مصر وتنتهي من التأثيث ومباشرة عملك في ستة شهور فأنت محظوظ ذلك أن أقل مدة في هذه المهمة هي عامان، وأن تضع في حسابك تمديدهما إلى ثلاثة أعوام... وهذا ما قد حصل بالفعل بين أواخر العام 1971 والعام 1974.
وسألت... من سيكون عوني في هذه المهمة؟ فأجاب أنه اختار شخصين حصلا على تدريب مناسب في وزارة الخارجية للشقيقة دولة الكويت وفي سفارتها في بيروت، وهما إبراهيم علي إبراهيم ومصطفى كمال، وأشهد أنهما كانا لي نعم الساعدين وخير أخوين، ثم إنني طلبت منه مهلة مناسبة لترتيب أوضاعي وأعمالي فوافق... فودعته ونفسي تقول: «نعم الوزير».
في... حرز مكين
لقد جاهد الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة برفقة أخي حسين البحارنة لتثبيت حق البحرين في الاستقلال بعد استفتاء الأمم المتحدة لشعب البحرين من قبل البعثة الدولية برئاسة وينسبير جيوسباردي في العام 1970، وصادق مجلس الأمن على تقرير البعثة في 11 مايو/ أيار 1970 باعتبار البحرين دولة عربية مستقلة ذات سيادة معترف بها دولياً... فتكلل ذلك المسعى بالنجاح الباهر ما دعا ممثل بريطانيا إلى إلقاء قصيدة شعرية في مجلس الأمن احتفاء بذلك النجاح، وها هو الوزير يتفرغ الآن لينشئ علاقات البحرين الدبلوماسية مع دول العالم بلداً تلو الآخر وهي في حرز مكين.
يوم وداع التجارة
بدأت بعد ذلك أتوجّه لترتيب أموري داخلًا في عالم السلك الدبلوماسي، خارجاً من عالم التجارة والأعمال... لميقات معلوم... اتفقت مع غرفة تجارة وصناعة البحرين على تسليم منصبي كأمين عام لاتحاد غرف تجارة وصناعة إمارات الخليج العربي إلى حسن زين العابدين وكان معي في شئون الاتحاد كتلة من نشاط، وكذلك رئاستي لجنة الإدارة والمالية والموازنة والمؤتمرات والعلاقات الخارجية للغرفة.
تأسس اتحاد غرف تجارة وصناعة إمارات الخليج العربي في العام 1969 بعد أن كان فكرة تراود رئيس غرفة تجارة وصناعة البحرين المرحوم علي الوزان وأعضاء مجالس إداراتها منذ زمن... ثم أينعت هذه الفكرة وحان قطافها حين حميت بين إمارات الخليج العربي فكرة تكوين اتحاد عام فيما بينها بعد خروج كل منها من الوصاية البريطانية وإعلان الاستقلال.
قيام الاتحاد في المنامة
واشترك رؤساء وممثلو غرف التجارة والصناعة في إمارات الخليج العربي في إعلان قيام هذا الاتحاد في مدينة المنامة ومعهم مراقبون من العراق والمملكة العربية السعودية، وأمين عام الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة في البلاد العربية، برهان الدجاني، وحظي الاحتفال برعاية سمو الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وسمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، بما في ذلك من استقبال ودعوة عشاء، وفي عهد أمانتي العامة للاتحاد تم عقد اجتماعين في البحرين وثالث في قطر والرابع في دبي عند منتصف العام 1971، وخرج الاتحاد بقرارات وتوصيات في مجال الوحدة الاقتصادية الخليجية تم رفعها إلى المسئولين في كل بلد وحظيت بالإشادة لا سيما في الصحف ووسائل الإعلام، ولكن روح التنافس والحساسيات الخاصة حالت دون تنفيذ معظمها ولعلها لاتزال كذلك بعد مرور عقود من ذلك الزمن... ثم أعفيت نفسي من بعض المجالس واللجان بما في ذلك عضويتي في لجنة الزكاة تحت رئاسة صديق العمر الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة، وكذلك في مجلس إدارة أموال القاصرين حين كان صديق المدرسة والدرب المرحوم الشيخ خالد بن محمد آل خليفة وزيراً للعدل ورئيساً للمجلس.
محاضر في دفتر كبير
فأما صندوق الزكاة، فقد اقتنع الرئيس والأعضاء بقولي إن جباية الزكاة من قبل الحكومة يجب أن تكون اختيارية لا إجبار فيها على الناس، وأما دائرة أموال القاصرين فقد كلمني عنها الرئيس وأنا في القاهرة وقال... لقد أخذ المجلس بمقترحاتك كلها، وأصبحت لدينا محاضر جلسات وجدول أعمال يوزعان على الأعضاء قبل حضور الجلسات وأصدرنا أمراً للإدارة بتخصيص مقاعد للمراجعين وتقديم القهوة والشاي لهم، كما ألزمنا لجان الكشف بتقديم تقارير مكتوبة بدل التقارير الشفاهية.
كانت محاضر الجلسات تكتب بخط اليد في دفتر كبير بواسطة المرحوم محمد دويغر على غرار محاضر مجلس إدارة نادي العروبة الذي كان يرأسه من قبل، ولم يكن هناك جدول لأعمال المجلس، وأما المراجعون لاستلام معاشاتهم وحقوقهم من دائرة أموال القاصرين فكانوا يتكدسون صفوفاً أو على الأرض، ومعظمهم من النساء العاجزات، في مدخل الإدارة في انتظار دورهم، وكان البعض من المتذمرين يقتحم مجلس الدائرة وهو في الانعقاد فيشكو ويتذمر ومنهم من كان يتجرأ على المجلس بكلمات وأفعال لا تليق ليثبت لهم أنه بالغ الرشد وليس قاصراً، ويطالب بمستحقاته كلها... لقد كان معظم ما يشغل المجلس ولجان الكشف هو التحقق من بلوغ الرشد، وهل هو راشد سفيه أم غير سفيه.
في دبي وأبوظبي
أما الخطوة الثانية لترتيب أوضاع أعمالنا فكان مسرحها في إمارات الخليج العربية وهي دبي ثم أبوظبي ومدينة العين، حيث كانت لشركتنا فروع في كل منها، وكنت أنا المشرف عليها شخصياً ابتداء من أواخر عام 1966، فأما فرع دبي، فقد كان شركاؤنا فيه من عائلة كريمة عريقة في التجارة، كان والدنا يتعامل معها من قبل، وأنهينا جميع المعاملات الرسمية لنقل الملكية إلى الشركاء خلال ساعة واحدة بمساعدة المحامي الناشط المرحوم أحمد علي التاجر، وأما شراكتنا في (أبوظبي) فلها شرح قد يطول.
قدمت إلى دبي بعد منتصف العام 1966، واستقبلني الصديق علي محمد التاجر، وكان يزاول التجارة آنئذٍ، وقال إن دبي ليس فيها فندق لائق وفندق الخليج هو أشهرها... لكن مستواه غير مريح وبناؤه قديم... ولابدّ أن تسكن معنا.
ثم إنني تحدثت عن رغبتنا في فتح فرع لنا في أبوظبي وهي على موعد مع مستقبل تجاري واعد والمندوبون يتوافدون عليها من كل صوب، فقال سأدلك على شريك، إذ لابد لك من شريك ظبياني كشرط لمزاولة الأعمال، وسيكون في استقبالنا في المطار.
العدد 4204 - الثلثاء 11 مارس 2014م الموافق 10 جمادى الأولى 1435هـ