لا نستغرب. نعم، هناك في الجغرافيا ديكتاتورية أيضاً. تُمحي تلك الحقيقة (التي أكَّدها ماهان كباحث في الجيواستراتيجيا) ذلك الاعتقاد السائد، بأن البشر هم مَنْ تنحصر فيهم الديكتاتورية، فتظهر في السياسة وفي الأسرة وفي المجتمع، وفي كل سلوك بشري. هذا الأمر بات يتعزز في كل حدث جديد، وآخر هذه الأحداث هو ما جرى في أوكرانيا.
فبعد التحولات السريعة، التي رافقت الأزمة السياسية في كييف، والتي كانت خاتمتها انهيار حكم الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو، وقيام الأخيرة بدخول شبه جزيرة القِرم، دون اكتراث لـ «المعارضة» الغربية والتهديدات بفرض عقوبات عليها، تبيَّن كيف أن الجغرافيا وفروضها يمكن أن تتصرف بشكل ضغياني لا حدَّ له.
لقد نَسِيَت المعارضة الأوكرانية تجربتها «المرَّة» في العام 2004، وما آلت إليه من انهيار وفاق الثنائي (الصعب) يوشنكو/ تيموشينكو، ولاحقاً فوز يانوكوفيتش (ذو الهوى الروسي) في انتخابات العام 2010. وغَدْر الغرب بها، وغدْره بشقيقتها جورجيا، التي سَلَخَها الدب الروسي كشاة ضعيفة، بعد تجربة أوسيتيا الجنوبية في العام 2008.
أتذكر أن وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنارد كوشنير وخلال لقاء صحافي مع تريسي ماكنيكول قال في ردِّه على إمكانية فرض عقوبات غربية على روسيا بسبب تدخلها العسكري في جورجيا: «أية عقوبات تتحدثين عنها ضد بلدٍ يُزوّدك بالطاقة؟ هل تريدين منا أن نقطع عنها الغاز في الغلاف الجوي؟ أنتِ تتذكرين ما فعلوه بأوكرانيا». تمعنوا!
هذا الأمر يبدو جلياً الآن. الروس قادرون (وتحت حجج قومية وطائفية) أن يفرضوا واقعاً معيناً بجوارهم. فهم الأقوى، وهم الأكبر، وهم الأقدر على تصريف أمور منطقة تمتد لآلاف الكيلومترات، وتنتشر عليها خارطة معقدة من الديموغرافيا التي خلفتها حروب القرون السابقة. هي اليوم تقاتل في سورية حفاظاً على نفسها، فكيف بها إذا كان الأمر متعلقاً بأوكرانيا ذات الوشيجة الجغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية الأقرب؟
هي تدرك، أن الدواعي السياسية لنزعة الغرب الأوكراني ما هي إلاَّ مدخل أميركي وأوروبي لتغيير ميزان استراتيجي في الجوار. هذا الأمر خطير بالنسبة لموسكو. لسان حالها يقول: هل قَبِلَ الأميركان بتغيير الميزان العسكري في كوبا في أكتوبر 1962، عندما تم نشر صواريخ نووية متوسطة المدى أم (و آي) آر بي إم إس؟ لا، بل وكادت تندلع حرب نووية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. السبب أن واشنطن رأت أن خاصرتها ستُضرَب.
بعد الأزمة الأوكرانية، لم يُحرِّك الروس أكثر من إرجاع سعر الغاز إلى سابق عهده، ومطالبتها كييف تسديد ديونها. ما ظهر، أن الخزانة الأوكرانية باتت فارغة، وبالتالي هي غير قادرة على الإيفاء بتلك الديون المستحقة. بالتأكيد، الروس يستطيعون أن يفعلوا أكثر من ذلك، وقد يصل الأمر إلى ما (قد يكون) قد فعلوه مع غريمهم فيكتور يوشنكو.
حين نكون منصفين، يجب أن نقول (وقبل مسألة التدخل الروسي في القرم) أن استجابة المعارضة الأوكرانية لتنازلات يانوكوفيتش، كانت كفيلةً بأن تمنع هذا الانزلاق الرهيب في البلد. لكن ما يبدو أن الأمور كانت مرتبكة وإن على مستويات إحدى أجنحة تلك المعارضة، بعد أن تمَّ الكشف قبل أيام عن مكالمةٍ تم تسجيلها بين رئيسة المفوضة الأوروبية للسياسة الخارجية والأمن كاثرين آشتون ووزير خارجية إستونيا أورماس بايت.
ما دار في المكالمة يشير إلى أن «جهة في المعارضة الأوكرانية قامت بتجنيد مسلحين قتلوا متظاهرين ورجال أمن في ميدان الاستقلال في كييف على يد نفس المسلحين، مع وجود صور وشهادات أطباء بشأن الرصاص من النوع نفسه وبالأسلوب ذاته»، مع تفاصيل أخرى خطيرة. الغريب أن مَنْ سرَّب المكالمة، هم أفراد من الاستخبارات الأوكرانية لازالوا يوالون يانوكوفيتش الموالي لروسيا. تخيّلوا إلى أي حدّ الروس متوغِّلون في الدولة والمجتمع الأوكراني، وفي أكثر الأجهزة حساسية.
هذا الأمر يعطينا انطباعاً بأن الغرب لم يُحسِن اللعبة مرةً أخرى. فشلَ في تجربته العام 2004 في أوكرانيا، ثم العام 2008 في جورجيا، واليوم يفعل الخطأ ذاته في أوكرانيا، والضحية هو الوطن الأوكراني، الذي بات مهدَّداً بالتقسيم، ما بين شرقٍ يوالي موسكو وغربٍ يوالي أوروبا. وهو ما يعني حرمان القوميات في ذلك البلد من التعايش بسلام.
يُخطئ الغرب إن اعتقدَ بأن ما جرى في أوكرانيا هو وسيلة ضاغطة على روسيا للتفاهم على ملفات أخرى، بل قد يكون بالعكس. فهو قد يجعلها أكثر تشدداً، سواء في موضوع العلاقة مع إيران أو في الملف السوري، أو في مسألة التعاون الأمني والعسكري مع الغرب.
بوتين يقود روسيا بعقلية الـ «كي جي بي» بعد ظهور قضية سنودن. ويقودها برؤية بريجينيف في المواءمة ما بين العقل العجوز والقلب الشاب كما طرحها لينين. إنها دولةٌ لها طموح امبريالي.
في لحظةٍ من اللحظات، اعترف أيفان كراستيف بالقول بأن «روسيا على خلاف (الاتحاد السوفياتي) هي غير محصورة ضمن نطاق نفوذها، لأن من يحكمها هم أناس يمتلكونها، ونظرتهم العالمية تُحددها قوميتهم المتنامية». هذه حقيقة روسيا، وحقيقة سياساتها.
الروس لديهم ناتج قومي يزيد عن نصف تريليون دولار. ويبيعون سلاحهم لأكثر من سبع وخمسين دولة. وهي عضو في «البريكس»، وفي منظمة شنغهاي، وفي منظمة الأمن الجماعي، ولديها فيتو في مجلس الأمن، ولديها احتياطي ضخم من الغاز.
هذه حقائق وليست فرضيات. وما يهم هنا، هو أن الغرب يجب أن يعي هذه الأمور حفاظاً على السلم العالمي. وعليه أن يُدرك بأنه لن يستطيع أن يقول للروس أكثر مما قاله روين ويليامز في تحذيراته التهكميَّة: «قِف مكانك! وإلاّ قلنا لك مُجدّداً قِف مكانك». هذا أقصى ما يُمكن أن يقال «غربياً» في وجه الدب الروسي الذي يحارب بديكتاتورية الجغرافيا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4200 - الجمعة 07 مارس 2014م الموافق 06 جمادى الأولى 1435هـ
جزاك الله خير
جزاك الله خير يا اكاتب المبدع و...و الله المستعان
متابع
ما دام الكاتب الكريم تكلم عن الروس و عن قوتهم ، نطلب منه أن يكتب مقالا آخر عن ( الصين ) وعن الصعود الصيني العالمي ، حيث يقال اليوم أن امريكا تعتبر الصين تحديها الأول عالميا ، ما هي عناصر قوة الصين ( بالنسبة لأمريكا ) ؟ هل للصين مشروع امبريالي توسعي أم أنها منكفئة على الداخل ؟ ما هي نقاط ضعفها ؟ ما حجم خطرها على أمريكا ؟ أتعتبرها أمريكا أخطر عليها من إيران و من الجماعات الجهادية ؟ . . . . هذا طلب نأمل من الكاتب القدير أن لا يخيب رجائنا فيه .
نزعة الغرب امر خطير بالنسبة لموسكو
يُخطئ الغرب بدون توقف- ما في النفس يخرج على السان--: روسيا من يحكمها هم أناس يمتلكونها، ونظرتهم العالمية تُحددها قوميتهم المتنامية فلايمكن للذئب ان يكون يوما .. حملا وديعا
تحية صباحية
مقال يستحق القراءة فعلا
شكرا شكرا شكرا
كم هي رائع ومفيدة للقارئ هذه المقالات
بارك الله فيك
والحل الرجوع للاتفاق الذي تم بين المعارضة والرئيس فيكتور
ما يقوم به الرئيس بوتن هو مايتوجب عليه فعله الجغرافيا أيضاً لها تخاريج تكون غير متوقعه