تعيش السياسة الأميركية في هذه المرحلة حالة من الحيرة والدهشة بعد زيارة المشير عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية نبيل فهمي إلى موسكو، وإقدام الرئيس فلاديمير بوتين على الإعراب صراحةً عن تأييده لترشيح السيسي رئيساً لمصر. وردّت الولايات المتحدة قائلةً إن اختيار رئيس مصر ليس من مسئوليات بوتين. وكلا القولين حقٌّ أريد به مصلحة صاحبه.
وفي تقديري أن مقولة بوتين جاءت ليست تأييداً للسيسي، وإنما هي «كاشفة وليست منشئة» لحقيقة شعبية عبد الفتاح السيسي. أما مقولة أميركا أن اختيار رئيس مصر ليست مهمة بوتين فهي صادقة، ولكنها غير كاملة، فاختيار رئيس مصر ليس مهمة أوباما أو أميركا أو إسرائيل، كما قيل في عهد مبارك من بعض المفكرين المصريين بتعبيرات مختلفة، وإنّما الحقيقة هي أن اختيار رئيس مصر هو مسئولية الشعب المصري، وكذلك إن تأييد أميركا للإخوان لحكم مصر، أو تأييدها للطائفية أو المذهبية الدينية في مصر أو في أية دولة. ليس مهمتها، وينبغي أن يكون اهتمام أميركا وقادتها بشئون الشعب الأميركي الذي انتخبها، ويعيش قطاع مهم منه تحت خط الفقر.
منذ بضع سنوات دعيت للمشاركة في مؤتمر عقده مركز الشرق الأوسط بالأردن تحت عنوان «مشاريع التغيير في الشرق الأوسط»، وطلب مني أن أكتب بحثاً عن المشروع الصيني والمشروع الهندي للتغيير في الشرق الأوسط، وكان هناك باحثون آخرون يتحدثون عن مشاريع المناطق المختلفة مثل المشروع الأميركي والمشروع الروسي والمشروع الإيراني والمشروع التركي والمشروع العربي وهكذا. وبعد دراسة الموضوع بالنسبة للصين والهند بصفتي خبيراً في الشئون الآسيوية وخصوصاً الصين والهند وباكستان، وهي ثلاث دول قمت بدراسة كل منها بعمق وعملت بها دبلوماسياً، خلصت إلى القول أنه لا يوجد مشروع صيني لتغيير الشرق الأوسط، ولا يوجد مشروع هندي أيضاً، وأن حضارة الصين أو الهند كانت حضارة قائمة بذاتها معتمدة على ذاتها. ولم تسع أيٌّ منها لنشر عقيدتها الدينية أو فلسفتها الثقافية في الدول الأخرى كما حدث مع الحضارة الأوروبية.
وأكدت ضرورة الدعوة والعمل لمشروع قومي عربي، كأساس ومنطلق للتطوير والتحديث، مستنداً في مثل هذا المشروع على الهوية والثقافة العربية، بما في ذلك الدين والتاريخ العربي المشترك.
ونطرح السؤال: مصر وأميركا أين الخلل؟ لقد بدأ الخلل منذ الخمسينات عندما سعت أميركا لرسم خريطة الشرق الأوسط وفقاً لرؤيتها، وطرحت مشروعها لذلك في أوائل الخمسينات، وتصورت أن عبد الناصر زعيم مثل زعماء الانقلابات في أميركا اللاتينية في ذلك الحين، وإنها يمكن أن تسيطر عليه من خلال أجهزة الاستخبارات. وقدّمت له هدية بضعة ملايين من الدولارات، من خلال أحد عملائها المزدوج الدور، فلما أبلغ عبدالناصر بذلك قال له: خذها، وقام ببناء برج الجزيرة «ليكون شاهداً على غباء الاستخبارات الأميركية. وجاء ذلك كله في كتاب «لعبة الأمم» للمسئول الأستخباراتي الأميركي عن الشرق الأوسط آنذاك مايلز كوبلاند.
ثم عادت أميركا فوقفت ضد عبد الناصر في بناء السد العالي وضغطت على البنك الدولي لنفس الهدف، فلجأ إلى تأميم قناة السويس وللإتحاد السوفياتي الذي أيّده بقوة، وهكذا فشل مشروع إيزنهاور، ومشروعات تغيير الشرق الأوسط من خلال الأحلاف العسكرية، فلجأت أميركا لبث الفرقة بين العرب من ناحية، ولاستخدام إسرائيل لضرب عبد الناصر بعد أن أنهكت قواه وقواته في اليمن من ناحية أخرى. وطرحت مشروع الحلف الإسلامي بعد سقوط حلف بغداد من ناحية ثالثة، وهكذا الصراع على الشرق الأوسط مازال مستمراً باستخدام الإسلام السياسي من حين لآخر.
الخطأ أن أميركا تعتمد على العملاء بدرجة كبيرة، وليس على المستشارين الصادقين، وتعتمد كثير من مراكز أبحاثها على نفس المصدر الذي يقدم لها معلومات خاطئة، فترتكب أخطاءً فظيعةً تفضح ديمقراطيتها من ناحية وتغذّي طموحاتها من ناحية أخرى. وهكذا أدت السياسة الأميركية الخاطئة إلى احتضان روسيا السوفياتية للطموحات والمصالح العربية، ولكنها سرعان ما ارتكبت نفس الأخطاء الأميركية، ما أدى لعودة مصر للحضن الأميركي بعد مبادرة السادات بطرد الخبراء السوفيات عام 1971.
وهكذا وقع السادات في الفخ الأميركي، ولكنه كان أكثر ذكاء، وكان يخطط للانقلاب عليها بعد تحرير سيناء وإعادة مصر للصف العربي. ولذلك تم اغتياله باسم الإسلام بواسطة أشخاص واهمين وحالمين وخياليين وقعوا في فخ الذكاء الأميركي، أو جُنّدوا بوعي أو بغير وعي لمصلحته، كما أظهرت الحقائق بعد ذلك في أفغانستان، وكما برز ذلك بوضوح في حكم الإخوان وما يشاع عن قبولهم العمل لتصفية القضية الفلسطينية مستخدمةً «حماس» لضرب «فتح». وكانت الاستخبارات الإسرائيلية هي التي ساعدت على نشأة حماس على أساس ديني لهذا الغرض.
لقد وقع حسني مبارك فريسة طموحاته وأحلامه العائلية، بإنشاء أسرة ملكية مثل أسرة محمد علي، ولكنه اختلف عنه في أن محمد علي، رغم محدودية ثقافته، كانت لديه رؤية لبناء مصر، في حين أن مبارك افتقد الرؤية وغذت طموحاته أسرته وأعوانها من الرأسماليين الجدد، وهكذا وقعت أميركا بين طموحات مبارك غير العقلانية وطموحات الإخوان وتطلعهم للسلطة ووعدهم بالتماشي مع المصالح الأميركية والحفاظ عليها. واستخدمت الديمقراطية وسيلةً لانتقال السلطة، غير مدركة طبيعة الشعب المصري الخاصة، والذي يختلف عن أميركا أو أوروبا، ولذلك فوجئت بثورة ثانية للشعب ضد حكم الإخوان نتيجة تجاهلهم المفهوم الوطني المصري في غمار استخدامهم الدين لخداع الجماهير، وفي غمار طموحهم الشرس والمتسرع للاستيلاء على السلطة تحت شعار «التمكين». ولذلك فسرت أميركا حركة الشعب المصري ومساندة القوات المسلحة لها بأنها انقلاب، وهذا مفهوم غير دقيق. فالذي حرّر مصر وبناها عبر السنين، هو القوات المسلحة منذ «أحمس» و»رمسيس»، وغيرهم منذ عهد الفراعنة.
إن القوات المسلحة في مصر ليست قوةً من خارج الدولة، وليست بعيدةً عن الشعب منذ نشأتها الحديثة في عهد محمد علي، بل هي حاضنة للشعب ومصالحه. وكان العلماء قبل ذلك هم المعبّرون عن هذا الشعب ومصالحه حتى تغيّر دورهم، وضعف شأنهم باستخدام السلطة لمعظمهم، ثم بظهور ما سُمّى بالإسلام السياسي من خلال أجهزة المخابرات البريطانية التي استخدمته لتمزيق المنطقة بعد الإطاحة بالدولة العثمانية وإلغاء الخلافة عام 1924.
وهي لم تكن خلافة، بل كانت قوةً استعماريةً ظالمة ومتحللة، ولذلك أطلق عليها الغرب الصاعد آنذاك لقب «رجل أوروبا المريض». ولم تكن قوة حضارية إسلامية عربية، وإنما كانت تعبيراً عن تطور حركة المغول والتتار التي دمرت الحضارة العربية والإسلامية في بغداد وفي المراكز الأخرى بما في ذلك القاهرة التي أخذت منها الحرفيين والصناع إلى عاصمتها، ثم اعتنقت الإسلام شكلاً كوسيلة لفرض الاحتلال وإخضاع الشعوب في المنطقة تحت عباءة الإسلام. وهذا ما تكرّره القوى الطامعة باستغلال الدين، وهذا ما دفع الولايات المتحدة ومراكز أبحاثها لتكرار الأخطاء القاتلة، وتصور أن مصر أصبحت جثة هامدة وفريسة للصراع الديني لضرب المسلمين مع المسيحيين، وإحداث الفتنة.
ولهذا قام الفريق أول عبد الفتاح السيسي بمساندة ثورة الشعب في 30 يونيو 2013، وكذلك انطلاقه للعالم الفسيح، إذ أن مصر لها حضارة عريقة لم تنهر ولم تختف وإنما ضعفت وظلت كامنة، وتسعى لإعادة بناء أسسها الداخلية كركيزة للتواصل المصري مع العالم، وخصوصاً العربي والإفريقي والإسلامي.
ولحسن الحظ فإن القيادات العربية الخليجية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، منذ الملك فيصل رحمه الله واستخدامه سلاح النفط، كانت واعية وحافظة لنصيحة مؤسس المملكة الملك عبد العزيز، عندما نصح أولاده بالتعاون مع مصر، ولذلك دعم الملك عبدالله خادم الحرمين الشريفين مصر بقوة متحدياً الإرادة الأميركية، كما دعمها خلفاء الشيخ زايد آل نهيان رحمه الله، وكان الشيخ زايد عروبياً قومياً أصيلاً مؤمناً بدور مصر وأهميتها، وساندت الكويت مصر اعترافاً بدورها في مساندة الكويت ضد مطامع عبد الكريم قاسم وضد غزو صدام حسين للكويت، والبحرين ساندت مصر سياسياً ومعنوياً تقديراً لدور مصر في مساندة البحرين ضد المطامع الإيرانية.
القيادة الجديدة لمصر عليها مسئولية رباعية الأبعاد، الأول: بناء مصر الداخل على أساس القوى الثلاث الاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة، أي الموارد البشرية والثقافية؛ والثاني: تعزيز التلاحم المصري العربي الإفريقي؛ والثالث: الانفتاح على العالم بأسره بما فيه أميركا وروسيا والصين والهند؛ والرابع: إصلاح خطوط التواصل الحضاري والاستراتيجي مع أوروبا الحديثة على أسس سليمة، فالحضارة المصرية منذ عهد الفراعنة لها صلة وثيقة بدائرتين حضاريتين هما الدائرة الإفريقية ودائرة البحر المتوسط.
مصر وأميركا... أين الخلل؟ إن هذا الخلل مرجعه التصورات الخاطئة لدى أميركا تجاه مصر واعتبارها يمكن أن تكون تابعةً لها، ومن ثم السياسات الخاطئة للدبلوماسية الأميركية بالاعتماد على الإسلاميين من العملاء وليس الإسلاميين صادقي الإسلام والإيمان بالوطن. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى التصورات الخاطئة لدى مصر عن «ماما أميركا» بالاعتماد على مساندتها وإخضاع مؤسسات الدولة للرغبات الأميركية والابتعاد عن الدول الأخرى الناهضة في العالم.
إن على قيادة مصر الجديدة أن تتخلى نهائياً عن مفهوم التبعية لأميركا أو روسيا أو أية دولة أخرى، وأن تبني دولتها على أساس التلاحم الحقيقي مع محيطها العربي والإفريقي والإسلامي، وبناء ديمقراطية تعكس هوية الشعب المصري المعتدل والعقلاني، وتحقق له طموحاته وتحمي وتدافع عن أمنه الوطني وسيادته الوطنية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4199 - الخميس 06 مارس 2014م الموافق 05 جمادى الأولى 1435هـ