حين يُقتَل فرد في مشوار أزمة سياسية كاملة الأركان، فإنه يتحوَّل إلى مجرد رقم في الإحصائيات وعند أغلب الناس، لكنه لا يكون كذلك عند مَنْ ينتمي إليهم نَسَباً وروحاً.
من أشد العقد في الأزمات السياسية، هي أن تداعياتها لا تخضع لمقاييس منطقية أو مرئية. بمعنى، أنه من الصعب جداً حصرها في جغرافيا محددة، وبالتالي إيقاف تمددها، فضلاً عن عدم القدرة على ضبط شَرَرِها، الذي قد يبدو مُجرّد وَخْزٍ في الخاصرة لا أكثر، في حين، قد يتحوَّل ذلك الشَّرَر لاحقاً إلى نارٍ تسرِي في الهشيم، بعد أن كان مُستصغَراً.
ألَمْ تُحوِّل حادثة اغتيال رجل (الأرشيدوق فرانز فرديناند) وزوجته في سراييفو، إلى نشوب حرب عالمية، تقاتلت فيها أربع عشرة دولة، وأفضَت لأن يخسر العالم بسببها ثمانية ملايين ونصف المليون قتيل، وسبعة ملايين مفقود، وواحداً وعشرين مليون جريح، وانهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية، ومعها الإمبراطورية العثمانية، وما تلا معاهدة فرساي؟
ألَمْ تؤدي حادثة عين الرمانة، بإحدى ضواحي بيروت الشرقية، حين هُوجِمَت حافلة ركاب فلسطينية إلى إشعال حرب أهلية في لبنان، استمرت خمسة عشر عاماً، وجرَّت إليها المسيحيين والمسلمين والدروز ثم الفلسطينيين والسوريين والإسرائيليين والإيرانيين والأميركيين والفرنسيين، إلى أن جاء اتفاق الطائف ليُشكِّل لبنان بصورة أخرى تماماً؟
هذه حقائق من التاريخ القريب والجَلِي. لكنني أعود إلى خيط الفكرة الأساس، وهي أن الأزمات السياسية لا تقف عند حدٍّ زماني أو جغرافي. ليس ذلك فحسب، بل إن صورها أيضاً متعددة. فهي لا تأخذ دائماً أشكالاً عنفية، أو تظاهرات، أو إضرابات، بل أحياناً تكون أشكالها مكتومة، تنمو بين تشققات المجتمع، وفي الخزان الأوسع للذاكرة والعواطف الجمعيَّة، حتى إذا ما جاءت لحظة الموعد، انفجر ذلك الخزان واستعرَ ما بداخله.
وقد بيَّنت لنا تجارب السُّعار الجمعي، وانفلات لحظته، أن أسوأ ما فيه هو محاكاته لأصل منبته، وهو عدم خضوعه للمنطق، فتراه منهمراً كالسَّيل العَرِم، يجرف ما تحته وأمامه بغير رحمة ولا رؤية. فهو مدفوع بذاكرة بعيدة تمتد إلى عقود أو مئات من السنين، لا يرى فيها التفاصيل، سوى أنه بحاجة لأن يأخذ حقاً منهوباً، ويداوي عواطف مجروحة.
أقول هذا الكلام، وأنا أرمق ضحايا الصراعات السياسية في عالمنا، وأسمع آهاتهم. هم ليسوا آحاداً فقط، ولا عشرات، ولا مئات بل ولا آلاف حتى (مع اختلاف مناطق الصراع طبعاً). هؤلاء، هم الوقود الطبيعي لذلك السُّعار، ولتلك اللحظة، ولذلك السَّيل، ولتلك العواطف وتلك الذاكرة. إنه مشروع مؤجَّل فقط لا أكثر.
حين يُقتَل فرد في مشوار أزمة سياسية كاملة الأركان، فإنه يتحوَّل إلى مجرد رقم في الإحصائيات وعند أغلب الناس، لكنه لا يكون كذلك عند مَنْ ينتمي إليهم نَسَباً وروحاً. فإن قلنا أن ذلك المقتول لديه عائلة صغيرة (أب وأم وأخوة) مكوَّنة من خمسة أفراد، ولديه عائلة مُركَّبة (أعمام وأخوال وأصهار وأبناؤهم وذراريهم وغيرها)، ثم لديه قرابة روحية (صداقة) مع آخرين، فإن تعدادهم لن يقل في أضعف الأحوال عن خمسين فرداً.
وإذا ما قدَّرنا أن هناك مئتي ضحية، سقطوا خلال تلك الأزمة السياسية، فهذا يعني أن أمامنا كتلة بشرية يصل تعدادها إلى 11000 شخص هم ذوو علاقة مباشرة بأولئك الضحايا، ولا ينظرون إليهم من خلال الإحصائيات والأرقام العامة. وإذا ما طبّقنا ذات المعادلة، على تعداد المحبوسين على ذمم سياسية في حدِّ الألفي معتقل كتقدير أوَّلي، فهذا يعني أننا أمام 110000 شخص، هم على صلة مباشرة بأولئك المحبوسين.
ولو طبقنا ذات المعادلة على أصحاب الجروح، ومَنْ نالتهم الهجرة القسرية والاضطرارية من بلدانهم، فإن الرقم لن يتوقف عند الـ 121000 فرد إذا ما ضممنا الرقمين، بل سيتعداه إلى ضعف أو ضعفين. وهو ما يعني، تشكُّل حزام بشري من الناقمين وأصحاب الثارات، الذين يمتلكون من الذاكرة والمشاعر ما تمكّنهم من التحوُّل إلى خصوم، يتحيَّنون كل فرصةٍ للنزال وللانتقام غير المحسوب بزمن، ولو بانقضاء السنين.
وعندما يصبح المشهد بهذه الكيفية، تصبح المواجهة غير مرئية، وغير محدودة بمكان، وغير خاضعة للمعالجات المادية الصرفة. وهذا الأمر بات متعاظماً اليوم أكثر من السابق، في ظل التبادل المعرفي، والتنبُّه للقوانين المحلية والدولية المُجرِّمَة، والقدرة على الاتصال المباشر والمتوالي بلا حدود ولا قيود، مع انهيار جدار الخوف، الذي هدَّته ثورة الاتصالات. هذه مشكلة يجب أن يُنظَر لها بجدية عند أنظمة الحكم.
هنا تأتي حكمة القادة في معالجة الواقع السياسي بمزيد من الاعتدال، وعدم الرضوخ إلى أصحاب النفخ في نار الفتنة. أن تكسِبَ فرداً خيرٌ من أن تخسره. فإن كسبته، كسبتَ معه رَهْطه، والعكس صحيح. وكلما أطفأتَ ناراً أبعدتَ عن رجليكَ وهجها. وكلما مَلكتَ قلباً أسكتَّ عنكَ لساناً يدعو عليك. وكلما منعتَ دمعةً ضمنتَ أذناً تسمعُ إليكَ. وكلما حفظتَ حقاً، لَجمتَ ضَغْناً قد يأتي عليك. هذه هي إشارات الحكم الرشيد.
أختم ما عنونتُ به هذه المقالة، وهو عبارةٌ عن قصة جديرة أن نقرأها، وقد ذكرها البيهقي في «المحاسن والمساوئ» من أن ابن المعافي قال لأبي مسلم الخراساني صاحب الدولة: أيها الأمير، لقد قمتَ بأمرٍ لا يقصر بك ثوابه عن الجنة في إقامة دولة بني العباس. فقال: خوفي من النار والله أولى من الطمع في الجنة، إني أطفيْتُ من أمية جمرة، وألهَبتُ من بني العباس نيراناً، فإن أفرحُ بالإطفاء، فواحزنا من الإلهاب. إني نَسَجتُ ثوباً من الظلم لا يَبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم من صارخٍ وصارخةٍ تلعنني عند تفاقم هذا الأمر، فكيف يغفر الله لمن هذا الخلق خصماؤُه؟
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4195 - الأحد 02 مارس 2014م الموافق 01 جمادى الأولى 1435هـ
مروان. الراشدي
الفاروق
بوركت اخوي محمد وجزيت خيرً على هادا المقال اكثر من الرائع وعلى فكرة انت من افضل الكتاب الدي اقراء لهم
مقال موفق
كفيت ووفيت
انت خطيب الوسط
هذا اسلوب يذكرني بالخطباء الذين يمتلكون قوة جذب بحيث ان المستمع او القاريء لا يشعر بالوقت ويقل اطل علينا اي زد قليل الذي سردته على الرغم انه وفى وكفى
صدق الشاعر
يا ليت ظلم بني مروان دام لنا ## وليت عدل بني العباس في النار ...........وقال اخر :تا الله مافعلت امية فيهم ## معشار ما فعلت بنو العباس ............ ياليت حكامنا يتعلمون وتتوعى قلوبهم
بورك قلمك ..
ممتعة القراءة لك دائما ...
فذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين
احسنت.ياريت ينشر هذه المقالة في كافة الصحف المحلية حتى يعتبر الجميع الصغير و الكبير ..العاقبة للمتقين
يا كافي يا شافي
ذكرتني بمقال قرأته عن حادثة قتل ابو مسلم الخرساني قبل سنوات .. المشهد الدموي الذي قتل به ابو مسلم .. لا يزال متواصلا بل زيدَ عليه طرق مختلفة من فنون المكر والخديعه والكذب ووو.. .. وما يعجز اللسان والقلم والفكر من البوح به من اساليب شيطانية يلعب بها كل من لا يخاف الله .. ومن احيط بحاشية آفكه تعمل لمصلحتها ..كفانا الله شرهم
لقد إرتكب أبو مسلم الكثير من الإنتهاكات والظلم لذا شرب من نفس الكأس
وأنشد المنصور الدوانيقي بعد قتله هذه الأبيات:
زعمــت أن الدين لا يقتـضي فاستوف بالكيــــل أبا مجرم
اشرب بكأس كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم
تحيات الصباح
ما اجمل هذا المقال يا اخ محمد .
عوفيت كفيت ووفيت واختصرت وهل يوجد رجل رشيد
واقع مر ذكرته بالأرقام والاصعب هو ظهور جيل شاب مقبل على الحياة ذاكرته قوية والخوف رماه وراء ظهره وها نحن نراه في الساحات والمسيرات وأقول من انضجهم وصنعهم وأقول هو من شرعن الظلم وميز
عبد علي البصري
يا ما كلمه صنعت اكثر مما صنع ابو مسلم الخراساني ، الكلمه اشد من السلاح فلعنه الله على من اطفأ نور الله بفيه .