تمعن مسرحية «عندما يبتسم المطر» سادس عروض مهرجان أوال المسرحي الثامن، في بعثنا نحو الأمل في الحياة، وفي إدانة الوقع عبر أكثر من زاوية. مرة عبر الدعوة إلى تجديد الحكاية المسرحية، ومرة عبر التماس الأمل ليس من الأصحاء بل من المعوقين وذوي الحاجات الذين هم في نظرتنا البسيطة مَن يحتاجون إلى الأمل والدعم فإذا بهم يمنحوننا الأمل ويدعوننا للتجديد ومعايشة الواقع وإلا فالمسرح مهدد بالتلاشي والزوال وذهاب الجهود «في صيغة نقدية لا تخلو من التهديد».
ثيمة مخرج يبحث عن نص أو «عليه أن يبحث عن نص»، ثيمة تكاد تكون مكرورة في الكثير من العروض المسرحية، فما الجديد في هذا العرض الذي يقدّمه مجموعة من ذوي الإعاقة. قبل الإجابة عن السؤال، لابد من استكشاف ما وراء هذه الثيمة المسرحية المتكررة.
ملخص «الحدوتة» في مسرحية «عندما يبتسم المطر» لمؤلفها جمال الصقر، والتي أخرجها محمود اسماعيل، أن ثمة مخرج تقليدي يرغمه من حوله، وما حوله من واقع على البحث عن نص جديد وحكاية مواكبة للعصر وإلا فهو مهددٌ بالفشل وذهاب الجهود والتلاشي في هذا الزمن الصعب؛ بسبب تقليديته وتكراره واجتراره لحكايته المعهودة، وسط التحولات الاجتماعية الملحة والعجلة الاقتصادية السريعة التي لا يقدر على مجاراتها، ولا الانفكاك من تجاذباتها، ما ولد حالة من الصراع تستمد حرارتها من أكثر من طرف، عبر صراع المخرج مع من حوله وما حوله، وصراعه مع زوجته، ومع المنتج، والممثلين، وصراعه مع ما يجب أن يكون عليه ليواكب الواقع. تسهم كل هذه الصراعات في صنع التصاعد في الحركة وتبعث الحرارة في المشاهد المسرحية.
تكرس الصراع في العرض وأحسسنا بحرارته تصاعدياً، عبر تبني وليد حسن في دور المؤلف أو المخرج، حكاية كان يشحنها بحماسه واندفاعه لها بشكل مقلق رغم تقليديتها على مستوى الواقع وفي نظر الآخرين، وهو ما ولد حالة الصراع التراجيدي بينه وبين الواقع المتجدد في قبال تقليديته كمخرج، وحالة من الصراع بينه وبين المنتج نادر أحمد الشيخ. وجرّه هذا إلى صراع مع ممثليه، وصراع حتى مع أقرب الناس إليه وهي زوجته التي مثلتها زهراء خليل، ثم مع ذاته حينما يبدأ في التأثّر والقبول برؤيتهم ومخالفة ذاته وقناعاته في البحث عن قصة أخرى تتساوق مع الواقع ويجدد بها مسيرة حياته الفنية.
الجديد الذي تساءلنا عنه أن مبعث الأمل هذه المرة يكمن في أكثر الناس إيماناً بالحياة، فصورة ذوي الإعاقة في أذهاننا هو أنهم أقل الناس قدرة على الحركة، فإذا بهم أكثر الناس قدرة على الحركة، عبر خروجهم من منصة الحياة الرتيبة التي يعيشونها والتي تستهونهم وتستقل قدراتهم وتنظر إليهم نظرة فيها شيء من الاستقلال والدونية والعطف على أقل تقدير، فإذا بهم يسهمون في إعطاء الأمل، بل ينظرون إلينا بالعطف لما آل إليه حالنا من جمود وتقليدية، ويسهمون بعملهم هذا في بعث الحياة في هذا الجمود من حولهم، منفلتين بنا من جمود المسرح وشخوصه وحكاياته وجمود مخرجه وهو الأخطر من أي جمود آخر.
ثمة فرجة مسرحية مقلوبة في هذا العرض، فالمعوق عادة يستمد عنصر الفرجة ويستدعي الآخرين للنظر إليه، مرة بشيء من الأسى والعطف ومرة بشيء من الاستغراب والاستعظام، وهذا عنصر فرجوي معهود منا نحن الأصحاء حين نقف أمام المعوق كمشاهدين. وإذا به هذه المرة يعكس عنصر الفرجة ويرينا ذاتنا وبدل أن نبعث فيه الأمل، أصبح هو من يبعثه فينا، وبدل أن ننظر إليه بالعطف، أصبحنا نحن الحريين من قبله بالعطف، وهو ما جسّده مجموعة من الممثلين في محاولة استنقاذ مخرجهم ومؤلفهم من أتون وهدة التقليد والجمود واليأس.
تجري المسرحية بصيغة المسرح داخل المسرح وعبر هذه الصيغة يصبح اللاعب ملعوباً به والمتحكِم متحكَم فيه، فالمؤلف من العادة أن يقوم هو بالتحكم بمصائر شخوصه التي يخلقها، وكذلك المخرج حين يتحكم في ممثليه، لكنه هذه المرة يقع ضحية الواقع وضحية ممثليه فيجبرونه على إعادة صياغة قصصه والنظر في اختياراته للتمسرح في هذا الزمان الصعب.
الاستهواء للحكايات المتكررة والقديمة والركون هو كناية عن تلاشي الرؤية والأثر والهم فمن لا هم له ولا شغف له بشيء لا قدرة لديه على صناعة الواقع، غياب الهم غياب الرؤية والألق، ولذا على المخرج أن يقاوم حكاياته المتكررة، ويبحث له عن حكاية جديدة وإلا فهو مهدد بالفناء.
بصيغة المسرح داخل المسرح حاول المخرج إقناعنا بأنه إما أن تصارعوا من أجل الجديد أو الموت والفناء.
«عند ما يبتسم المطر» تشرق الحياة وتبتهج بناسها، المطر مصدر الخير والنماء والخضرة والخصوبة مبعث الأمل، وأي أمل أشد أملاً من الأمل الذي يأتيك من أكثر الناس الذين كنت تعتقد أنهم محتاجون للأمل فإذا بهم هم مبعث الأمل.
العدد 4193 - الجمعة 28 فبراير 2014م الموافق 28 ربيع الثاني 1435هـ