ماذا بقِيَ لنا كي لا نكون مُحبَطين؟ لا أدري! كنا نعتقد بأن الصراعات الدينية، هي المنتِج الأول والأخير للطائفية. ثم ترسَّخ لدينا، أن ذلك الاقتتال الطائفي، الذي أفل من أوروبا، قد انتهى إلينا كـ «مسلمين» دون غيرنا. لقد تبيَّن أن ما كنا نعتقد به غير دقيق مطلقاً.
فبعد صراعات الهندوس في الهند ظَهَرَ أن حزاماً دينياً آخر لم يهتدِ بعد إلى التخلص من عقده التاريخية بعمرها الذي يناهز الـ 3500 عام. وعندما جاءت التقسيمات اليهودية الممزوجة بالجهويات، ظَهَرَ لنا بأن القضية لم تغادر ديناً زاد عمره عن الـ 2500 عام.
وعندما ظَهَرَت مجازر البوذيين في بورما ضد أقليَّة الروهينغا، تبيَّن أن عقد هذه الديانة التي كانت إرهاصاتها رفض الكهنوتية الكلاسيكية، وتدعو إلى التسامح والإخاء، قد تعاظمت بفعل الزمن، وأصبحت غير قادرة على هضم امرأة روهينغية تلِدُ ثلاثة أبناء.
اليوم، تخطينا كل تلك العقد، التي كنا نعتقد بأنها وتجلياتها «دينية» بالأساس، ليظهر لنا أن الأمر لم يعد «دينياً» فقط، بل إن تجربة الصراع الدموي في جنوب السودان بين الرئيس سلفاكير ميارديت الذي ينتمي إلى قبيلة الدِّينكا، ونائبه المعزول رياك مشار الذي ينتمي إلى قبيلة النوير، قد كشفت لنا أمراضاً قبلية وعرقية تموج عليها هذه المنطقة، رغم الادِّعاء بأن العلمانية قد تكون حاميةً أو مانعةً لأية انقسامات عرقية ودينية.
لقد منحتنا مأساة جنوب السودان مأساةً أخرى، تقوم وتتأسس على الحالة العرقية، التي بدأت جاهلية، مع استعار التمايز الطبقي، وتشكُّل نظام المصالح الخاص به، وبالتالي تماهي الانتماء الجُدُودِي مع المال والسلطة والنفوذ، وظهور الانتماءات الضيقة على أساسه، والتي حالت دون حصول اندماجات بين المكوّنات البشرية منذ الأزل.
فنحن اليوم، لا نكتفي بالإنشطارات الدينية، بل رجعنا إلى بدايات التفرُّع البشري، مع ملاحقة تلك البؤر المُفتَّتة لزيادة تقسيمها وكأننا نريدها رماداً.
لقد كانت الحركة الشعبية في الجنوب ومنذ عقود، ترفع شعار محاربة الشمال السوداني، بهدف تقاسم عادل للثروة المتركزة في الجنوب دون أن يحصل الأخير على حقه منها. وعندما جاء الإسلاميون إلى السلطة في الخرطوم في العام 1989، أضاف الجنوبيون حجَّةً أخرى لتدعيم طلبهم في الانفصال، وهي أنهم لا يستطيعون العيش مع نظام سياسي يقوم على أساس ديني إسلامي، في حين أنهم أكثرية مسيحية.
الشق الأول من شعار الحرب (تقاسم الثروة) جَمَعَ تحت رايته جزءًا كبيراً من السودانيين الجنوبيين. والشق الثاني من الشعار (ضرورة علمانية الحكم)، جَمَعَ إليه جزءًا آخر من أهل الجنوب. وكان الجمعان عبارةً عن خليط آمَنَ بقضيته حتى استقل الجنوب في العام 2011. وكانت نسبة المؤيدين للتصويت قد دلَّلت على مدى شرعية المعركة عند أهل الجنوب، حيث شارك تسعون في المئة منهم في الاستفتاء على الاستقلال وأيَّدوه بقوة.
وعندما قطفوا ثمار عقود من النضال والصراع، بدأت تناقضات المُجْمِعِين تظهر. وأخذ الجميع يلجأ إلى هويته الفرعية. فالنُّوَيْرِي لم يرَ نفسه سودانياً جنوبياً، بل بانتمائه القبلي. والدِّنكاوي لم يعد يرى نفسه إلاّ كذلك. وكذلك الحال بالنسبة للشيرلوكيين والشلكيين والأشوليين وقبائل الباريا واللاتوكا والمورلي والزاندي والفرتيت. وأصبح ثمانية ملايين من شعب جنوب السودان، يعومون على تلك التشكُّلات القبلية والعرقية الضيقة.
وربما كان خطأ الرئيس سلفاكير (الدِّنكاوي)، أنه استعجل في عزله نائبه مشار (النُّويري). فهو اعتقد أن الهوية الوطنية، قد صاغتها علمانية الدولة، والممارسة «الاتحادية» المتماسكة أثناء حقبة الكفاح، لكنه لم يُدرك، أن الهويات لا تتشكل خلال فترة الصراع، بل أثناء ممارسة الحكم، ومع وجود الثروات الوطنية، وبداية حياكة المصالح.
هذا الأمر يُدلِّل لنا دلالة واضحة، أن هناك شكلين من الصراعات الطائفية والعِرقية. الأول هو جوهر الصراع، والثاني هو مظهر الصراع. فالمظهر، يعطينا تصوراً بأن الصراع قد يكون طائفياً أو عرقياً، على اعتبار وجود سماطين من الخصوم، مع قيام برزخ صارم بينهما، لكن الحقيقة أن جوهر الصراع هو على المصالح والامتيازات والنفوذ.
يساعد تلك الحقيقة، وجود التقسيمات الجغرافية، حيث توزُّع الثروة. فإن كانت موجودةً في الشمال الذي يقطنه مُكوِّن طائفي/ عرقي مُحدَّد، يبدأ الجنوب بالنظر إلى مركز السلطة، ورؤيتها وحركتها لمفهوم التنمية. عندها يبدأ تحديد هوية رجال الحكم، طبقاً لانتماءاتهم الطائفية والعرقية، إن كانوا شماليين أو جنوبيين، حيث الانحياز المناطقي.
شيئاً فشيئاً يسري الوباء إلى حيث مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية حتى، كالجيش والأمن كأعلى حد فاصل لتحييد الانتماءات الفرعية. وهو ما جرى بالتحديد في جنوب السودان، حيث تفسَّح جزء مهم من الجيش الوطني والقوات الأمنية، التي كانت متوزعةً أصلاً على كامل الشريط القبلي والعرقي في ذلك البلد الفتي، وبالتحديد بين قبيلتَيْ النّوير والدينكا.
وحسب تحليل أحد الأصدقاء، بالحديث معه عن تلك التناقضات والهويات وصراع الأضداد وتعارضاتهما في وقت سابق، أن ذلك يجري «في كل دولة تتداخل فيها مكوّنات نسيج المجتمع الثلاثية: القبيلة، العرق والسلطة، والتي تغيب مع تطور المجتمع المدني حيث يلعب الفرد/ المواطن دوراً مختلفاً في الصراع الاجتماعي، حين يدخله بوعي، كونه مواطناً ينتمي لفئات وطبقات اجتماعية هي التي تحدّد هويته الاجتماعية السياسية المشخّصة دستورياً وحقوقياً، وتلك هي الملامح الفعلية للمجتمع المدني».
نعم... قد نرى هذا الأمر (الانهيارات الوطنية نتيجة الصراعات العرقية) يتكرَّر حتى في أوكرانيا، التي بات حنين غربها لأوروبا، ودفء شرقها لروسيا، معياراً يمكن القياس عليه أيضاً لتثبيت دواعي الانفصال. وقد يتكرَّر في ولايات أميركا الشمالية، وفي قبائل الشرق ودوله، لا نعلم. هنا، يزداد المرء في انتكاسته ويأسه، مع تفسُّخ كل ما بقي أمامنا من تجارب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4193 - الجمعة 28 فبراير 2014م الموافق 28 ربيع الثاني 1435هـ
يزداد المرء في انتكاسته ويأسه، مع تفسُّخ كل ما بقي أمامنا من تجارب
واقع كل ثورة بعد سقوط الدكتاتور, يذهب الثائر ليخلد للنوم للراحة، ويستيقظ المتخاذل من نومه بكل نشاطه ليستلم السلطة! د. علي شريعتي
شكرا. أستاذي
مقال رائع