جاء رمضان هذا العام في فلسطين الجريحة، على غير عادته، فالإجراءات «الإسرائيلية» سرقت منه الفرحة، وخلت شوارع الأسواق التجارية ليلاً من روادها، واختفت أصوات مفرقعات الأطفال وأهازيجهم التي اعتادوا غناءها قبيل موعد الإفطار وبعد السحور، وحل محلها حزن ظاهر على وجوه الآباء بشكل خاص لعدم تمكنهم من تأمين احتياجات الصيام بحدها الأدنى. وأضاف دخول موسم الشتاء والبرد مع حلول شهر رمضان مزيداً من الحزن، حتى مظاهر التواصل الاجتماعي تأثرت بصورة سلبية، وتبدو ليالي رمضان مقفرة، فالأسواق تفتح بعد الإفطار بصورة خجولة لغياب روادها.
ولم يعد الآباء يصطحبون أبناءهم بعد الإفطار لقضاء أوقات ممتعة، تتخللها عمليات شراء ومرح، كما وفقدت موائد رمضان لمّة العائلة الكبيرة، وصلة الأرحام، ولم يتمكن الأهل من زيارة بناتهم كعادتهم لدعوتهن لتناول الإفطار معهم بسبب الإجراءات «الإسرائيلية» على الحواجز، حيث يفضل الجميع البقاء في أماكنهم، خصوصا العائلات ذات العدد الكبير، في حين استطاع الشباب تحمل هذا العبء للوصول إلى موائد أمهاتهم.
وتقول أم يزن إنها لم تتمكن من زيارة عائلتها في نابلس منذ بداية الانتفاضة، وهي أم لأربعة أبناء، وكانت تأمل في رمضان أن تتمكن من الذهاب إليهم ولو ليوم واحد، ولكن الطرق موصدة بدبابات الاحتلال الجاثمة والرابضة على المدخل لكل قرية وبلدة ومدينة فتزداد صعوبة الوصول.
ويبدو أن كل محاولات التواصل الاجتماعي والتكافل التي يشتهر بها المجتمع الفلسطيني، وكل محاولات الجمعيات الخيرية لم تستطع أن تقضي على ظاهرة لم يشهدها المجتمع الفلسطيني من قبل، فماهر أسعد لم يصدق عينيه - وهو صاحب سوبرماركت بسيط - عندما رأى - أثناء عودته إلى بيته متأخراً قليلاً عن موعد الإفطار - سيدة في الثلاثين من عمرها تنبش بين بقايا الحاويات، وعند رؤيته ذابت خجلاً ليقترب منها ويسألها عن حالها وتطلب منه أجرة طريق.
أدرك عندها أن هناك جوعاً حقيقياً في الشارع الفلسطيني، واستطاع تفسير شراء بعض العائلات قبل الإفطار بـ «شيكل» واحد خبزاً، وبـ «شيكل» بيض لأسرة مكونة من خمسة أشخاص، و«الشيكل» العملة الإسرائيلية التي يتم تداولها في السوق الفلسطينية، والشيكل الواحد يساوي تقريباً ثمانين فلساً بحرينياً.
ويبدو أن رمضان دق ناقوس الخطر حول ظاهرة الفقر في المجتمع الفلسطيني، فهذا مواطن (رفض ذكر اسمه) من مخيم الجلزون يطلب من صديق له «شيكلين»، وبعد فترة قال له: «تعرف لماذا طلبت المال؟ أخذته لشراء علبة لبن لفترة السحور، ولولا رمضان ما تجرأت وطلبت الشيكلين»، مضيفاً: «لست الوحيد في هذا الهم» ليعدد أسماء كثيرة تعاني بهذه الطريقة البشعة والقاسية.
وأثرت الأوضاع الاقتصادية على حركة السوق، فرمضان يعتبر موسماً مهماً لأصحاب المحلات التجارية على اختلاف أنواعها، كذلك اثر عليها انتشار البسطات الكثيرة في الشوارع التي تبيع وتعرض كل شيء يخطر على البال.
ويقول أبو محمد (صاحب بسطة) انه كان يعمل قبل الانتفاضة بعمل يكفي عائلته ويوفر مبلغاً من المال للزمن، ولم يجد أمامه بعد طول جلوس إلا اللجوء إلى هذه الطريقة، مضيفاً «على الأقل أستطيع تأمين غذاء يومي لأبنائي».
وفي مقابل البسطات، انتشرت ظاهرة الدكاكين والمحلات الصغيرة في القرى، إذ يؤكد علاء (صاحب سوبرماركت) في رام الله «لم نعد نفتح بعد الثامنة ليلاً، بينما كنا في الأعوام الماضية نظل حتى ساعات متأخرة من الليل، بانتظار موعد عودة المواطنين من الأسواق وزيارتهم الليلية لأقاربهم، لأخذ احتياجاتهم لوجبة السحور، وكنا نبيع يومياً بما لا يقل عن 400 «شيكل» (32 ديناراً)، أما الآن فلا نبيع في اليوم الواحد بأكثر من 60 «شيكلاً» (حوالي خمسة دنانير).
ودفعت هذه الأوضاع الاقتصادية القاسية والصعبة الكثير من العائلات إلى تقليص مصروفاتها، وتقول هالة حسن إنها قررت وزوجها ضبط مصروفاتهم، باقتصار وجبة الإفطار على صنف واحد من الأكل، وعمل صحن حساء أو سلطة بجانبه، والاكتفاء بنوع حلوى واحد كل يومين أو ثلاثة.
وتقول أم سعيد حسن: «أن الأطفال هذا العام هم أكثر المتضررين، فقد امتنعنا هذا العام عن عادة اصطحاب الأطفال إلى أماكن اللهو واللعب، كذلك أوقفنا نظام دعوات الأقارب والأصدقاء إلى الإفطار، حتى نستطيع تدبر أمورنا الحياتية».
وفي بيت لحم، مهد سيدنا المسيح، استقبل المواطنون شهر رمضان المبارك، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وحصار احتلالي وإغلاق وقطع أوصال مناطق المحافظة كافة عن بعضها البعض، وشل جوانب الحياة اليومية كافة دون استثناء.
ويحل هذا الشهر الفضيل وبيت لحم ما زالت تضمد جراحها العميقة، جراء ما لحق بها من دمار وخراب على مدار عامين ماضيين، وخصوصاً إثر الاجتياح الاحتلالي «الإسرائيلي» الأخير لها، إذ فقدت الكثير من العائلات أبناءها وأقرباءها، وجرح المئات من أبنائها، والبعض الآخر لم يجد له مكاناً يؤويه ويستظل به ويحميه بعد أن دمرت جرافات الاحتلال بيته.
واختفت مظاهر الاحتفال الخاصة بالشهر الفضيل، والمتمثلة في التحضيرات اللازمة من المشتريات الضرورية من خضراوات وفواكه ومشروبات، كالتمر الهندي والخروب والكولا والعصائر المختلفة والسوس، وكذلك اللحوم بأنواعها المختلفة، ويلاحظ المار في أسواق المدينة انخفاض نسبة المترددين عليها لشراء مستلزمات هذا الشهر الفضيل، وضعف الحركة التجارية داخلها.
وأرجع الكثير من المواطنين، حال الركود هذه إلى الظروف التي يمرون بها، إذ فقدوا أعمالهم منذ بداية الانتفاضة، مما جعلهم غير قادرين على توفير احتياجاتهم واحتياجات عائلاتهم الضرورية.
وفي قلقيلية، بدأ الشهر في ظل حصار احتلالي متواصل وأوضاع اقتصادية متردية، وتشهد أسواق المدينة تحضيرات، تسبق في العادة قدوم الشهر الفضيل، وتتمثل في عرض بعض الحاجيات والمواد التي تواكب هذا الشهر أمام محلات بيع المواد الغذائية، كالجوز واللوز والتمور وقمر الدين، كما أن صانعي «القطايف» بدأوا بنفض غبار الأيام عن لوازم صناعتهم استعداداً لتحضير الأكلة «التحلية» الأكثر شعبية في رمضان.
ولا تقل استعدادات أسواق اللحوم والخضر، التي تتزايد في الأيام الأولى من هذا الموسم، عن بقية الأسواق، لتوفير مستلزمات الأطباق الرمضانية، وخصوصاً السلطات والعصائر وأنواع الحساء، فيبدو كل شيء جاهزاً بانتظار الزبائن. أما المواطنون، وهم المستهدفون بهذه العروض، فقد بدأوا يقلبون جيوبهم ويجرون حساباتهم، ولسان حالهم يقول: «العين بصيرة واليد قصيرة».
وفي طولكرم، غلب الإحباط على أهلها ويبدو ذلك جلياً في أسواق المدينة والحركة الاقتصادية المعدومة جراء الاجتياح اليومي لقوات الاحتلال للمدينة والتي كان آخرها ليلة أمس مما ألحق دماراً كبيراً في الحيين الغربي والجنوبي.
وتنتشر بسطات الخضر والسكاكر والحلويات والقطايف في مختلف أنحاء سوق المدينة إذ تتعالى أصوات الباعة وأصحاب البسطات لجلب المتسوقين وعرض أفضل ما لديهم بأسعار منافسة، وتشهد المنطقة اكتظاظاً وازدحاماً من قبل المواطنين الذين يتهافتون للفرجة لا للشراء، فشهوة الشراء لديهم لكن جيوبهم، لا حول لها ولا قوة فهي فارغة معدمة.
وأشار المواطن زياد عبدالله - الذي أقام عريشة لبيع القطايف - إلى أنه حضر من منطقة الكفريات جنوب طولكرم التي تعزلها عن المدينة أربعة سواتر ترابية مشياً على الأقدام عبر طرق التفافية طويلة ووعرة، معرضاً نفسه للمخاطر واعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال التي تنتشر بكثافة بين التلال والجبال والأراضي الزراعية المحيطة بهذه الطرق، لكي يقيم العريشة التي اعتاد سنوياً وخلال الشهر الفضيل على البيع تحتها لتوفير لقمة العيش لأبنائه، ولما يعنيه هذا الشهر الذي يتميز بإنتاج هذا الصنف من الحلوى «القطايف»، ولكن لا ثواب لمجهوده فلا مشترين، فمنع التجوال بفرض الحصار غالب.
وفي رام الله اضطرت أم جمال لمغادرة عملها مبكراً ذات يوم رمضاني كي تتمكن من الوصول إلى بيتها في سلفيت قبل أذان المغرب لتحضير مائدة الإفطار، لكن الحواجز «الإسرائيلية» - التي حولت المناطق الفلسطينية إلى معازل حقيقية - كانت لها بالمرصاد، وأجبرتها على الإفطار وهي تحاول جاهدة تجاوز عشرات الحواجز التي وضعت بين رام الله باتجاه مدن مثل نابلس وجنين وطولكرم.
وتقول أم جمال: «إن هذا الوضع حرام، إنهم يقتلون كل شيء في حياتنا حتى عبادتنا»، وأم جمال - التي فضلت عدم ذكر اسمها الحقيقي - ليست هي الوحيدة التي تتعرض لمثل هذه المواقف، إذ أصبحت الحواجز في رمضان عبئاً لا يقوى المواطنون على تحمله، وخصوصاً من يصلون من مدن بعيدة.
وأكثر المعانين هم الموظفون والعمال الذين يعبرون يومياً عشرات الحواجز الاحتلالية على رغم القرار الذي حدد دوام موظفي السلطة الوطنية بمغادرة مؤسساتهم قبل ساعة من الدوام الرسمي مراعاة لظروفهم.
وتقول أم جمال إنها غادرت في ذلك اليوم برفقة زوجها بعد انتهاء عملها باتجاه منزلهم في سلفيت، وقد توقعت أن موعد الإفطار سيحين وهم على الطريق، فتزودت ببعض الخبز والماء، وكان حدسها في محله، إذ قام جنود الاحتلال بتأخير الباص الذي كانت تستقله فأفطرت فيه شأنها شأن جميع ركابه.
وتقول إن معاناتها تبدأ منذ الصباح الباكر، مضيفةً أنها تضطر منذ بداية شهر رمضان إلى الاستيقاظ مبكراً لإعداد السحور، وتبقى مستيقظة بعد ذلك، إلى أن تقوم بتحضير احتياجات أبنائها الصغار وتحضير وجبة غداء خاصة بهم، وترتيب البيت ثم تغادر منزلها باتجاه عملها.
وفي خان يونس، استقبلت المحافظة، الشهر بأجواء مؤلمة من الحصار والإغلاق، وتشهد أسواق وشوارع خان يونس حالاً من الركود التجاري لم يسبق له مثيل، وهذا ما يؤكده أصحاب المحلات التجارية وتجار البسطات.
وفي جباليا، لم يحسم المواطن عبدالله محمود ياسين الكحلوت (65عاماً) من مخيم جباليا للاجئين أمره بعد، بخصوص إقامة بسطة لبيع «القطايف» في المخيم، وعزا تردده نظراً للأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها المواطنون، «رغم أن الأرزاق على الله» كما يقول، مشيراً إلى أنه لم يحضر بعد مواد عمل لعمل «القطايف»، لأنه غير متحمس لصناعتها هذا العام، «فالبيعة غير مستاهلة تعبها» على حد قوله.
ويعتبر عمل «القطايف» أحد المظاهر الرئيسية لشهر رمضان الفضيل، إذ يتخصص الكثير من بائعي الحلويات وغيرهم، في عمل هذا النوع من الحلويات الموسمية.
ويؤكد الكحلوت، أن حماسه لعمل «القطايف» ينطلق من رغبته في توفير العمل لأبنائه العاطلين عن العمل خلال شهر رمضان، مما قد يساهم في تخفيف الأزمة المادية التي يمرون بها، خصوصاً وأنهم عاطلون عن العمل منذ حوالي العامين، جراء الحصار الاحتلالي المشدد المفروض على الأراضي الفلسطينية.
ويرى أن رمضان هذا العام مختلف عن الأعوام الماضية بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها المواطنون.
و على رغم مضي 30 عاماً على عمل الكحلوت في مجال صناعة وبيع الحلويات و«القطايف» على وجه الخصوص وله زبائنه الذين يفضلون الشراء منه دون سواه من البائعين، فإنه يفضل الانتظار وعدم التسرع حتى لا تكون الخسارة فادحة - كما يقول.
ويشير إلى أنه كان يستهلك - في الأحوال العادية - نحو 30 كيلوغراماً من الدقيق، و 15 كيلوغراماً من السميد، إضافة إلى مواد أخرى ذات علاقة بالطعم واللون، أو «سر المهنة» كما يقول، إلا أنه إذا قرر بيع «القطايف» فسيبدأ بكميات أقل من الكميات التي تعوّد على تجهيزها في الأحوال العادية في شهر رمضان.
ودفعت الأوضاع الاقتصادية السيئة لقطاعات كبيرة من المواطنين في ظل الحصار والإغلاق عدداً كبيراً منهم إلى تجهيز بسطات في مناطق مختلفة في المخيم لعمل وبيع «القطايف» أو الحمص والمخللات على أنواعها. ويشير الكثير من أصحاب المحلات التجارية إلى اختلاف الوضع هذا العام عن الأعوام السابقة، فالكميات المعروضة أقل من العام الماضي، كما تم استبعاد عددٍ من الأصناف ذات الأثمان الغالية.
وذكر التاجر عماد الطباطيبي أن استعداداته لهذا العام أقل من العام الماضي، موضحاً أنه عمد إلى شراء البضائع والمستلزمات الأساسية التي تلبي احتياجات المواطنين، وفي الوقت نفسه تكون مناسبة لدخولهم. ويجمع الكثير من المواطنين والتجار على اختلاف رمضان هذا العام من حيث القوة الشرائية، والطلب والعرض، بيد أن الجميع يؤكدون أن إجراءات الاحتلال وممارساته هي السبب الرئيس للأوضاع الاقتصادية المتردية التي يعيشها شعبنا.
العدد 74 - الإثنين 18 نوفمبر 2002م الموافق 13 رمضان 1423هـ