قبل أن يعزله البرلمان، وقَّع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش وقيادات المعارضة الأوكرانية وبحضور مبعوثين من الاتحاد الأوروبي ومبعوث روسي، اتفاقاً لإنهاء الأزمة السياسية في كييف. تنازل الرئيس للمعارضة (أقصد لبلاده) بعد قبوله «إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وتشكيل حكومة وحدة وطنية، والعودة إلى دستور العام 2004 الذي يحد من سلطات الرئيس لصالح الحكومة والبرلمان، وعلى أن يُعزَل النائب العام في أوكرانيا، ووزير الداخلية».
بالتأكيد، فإن قرار يانوكوفيتش هو قرار حكيم، فهو لم يلجأ إلى الجيش ولا إلى القوات الخاصة، ولم يُحرِّض مؤيديه من الشعب الأوكراني ضد مخالفيه من بقية الشعب. وكان بإمكانه فعل كل ذلك، مع وقوف الدب الروسي وجبروته إلى جانبه بالمطلق، وقدرة موسكو على تقديم مبلغ خمسة عشر مليار دولار له، مع تخفيضات مجزية في تسعيرة الغاز وكمياته، لكنه لم يفعل وآثر ضبط النفس، حتى ولو قُضِمَت السلطة منه.
هذا المشهد (وبعيداً عن إرهاصاته وما ستؤول إليه الأمور من أحداث في ذلك البلد) هو مهم. وهو صيغة فريدة من «الوطنية» السليمة، التي على أثيرها يُقاس كل شيء. فالرصاص، وإراقة الدم، والاعتقالات، والتهجير، والملاحقات وكتم الحريات لا يأتي بظل «الوطنية» فضلاً عن حقيقتها والإحساس بها. وهو واحد من الدروس «النادرة» القادمة من مهد «الستالينية» الآفلة.
فالوطنية لا تتشكل فقط في المعارك العسكرية ضد العدو على الحدود، بل هي أيضاً ذات وشيجة قوية بعلاقة السلطة مع ناسها ورعاية حقوقهم. وعندما تختلّ هذه العلاقة، يختلّ معها كامل المشهد الوطني، حتى تصل الأمور إلى اعتبار التضحية في المعركة مع العدو ضرباً من الانتحار كونها تضحية ليست من أجل الأرض بل من أجل سلطة سياسية لا ترحم ولا تحترم شعبها، وذلك في كل الأحوال درس لنا ولغيرنا أيضاً.
وكالعادة، نتسمَّر نحن العرب أمام شاشات الأخبار، كي نُصفِّق لما يفعله الآخرون وعجزنا عنه نحن. يُصفِّق الفاشلُ للناجحِ على أمرٍ فَشِلَ هو فيه، ليصبح التصفيق هَذَياناً سياسياً ومَسّاً من الجنون، ولكنه في علوم النفس لا يعدو كونه صورةً من صور الـ Schizophrenia التي تُدلِّل على مدى انفصام صاحبها بعد عَطَبِ في وظائف العقل.
يُصفِّق هؤلاء المنفصمون دماغياً وسلوكياً، لانتخابات هناك ويعتبرونها إنصافاً، ثم يهتفون ضد مثيلتها هنا كونها تآمراً. ويُعجَبُون لحل سياسي هنا كونه مخرجاً لاحتقان سياسي، ثم يرفضون حلاً سياسياً مماثلاً هناك، باعتباره مؤامرةً وخيانة. يعتبرون أن ما عندهم هو ثورة ضد الطغيان، ولا يرونها غير إرهاب وانقلاب عند الآخرين! هذه صورة من صور أمراض النفس، وفي الوقت نفسه لا تخلو من كونها انتهازيةً ونفاقاً لا يحتاج إلى إثبات.
هذا النوع من الفهم والمواقف المتأسِّسة عليه لا تختلف عن مواقف الغرب تجاه أحداث المنطقة. فإزاحة محمود جبريل وقائمته من السلطة في ليبيا رغم حصوله على النسبة الأكبر في الانتخابات، وقبله قائمة إياد علاوي في العراق ليس مشكلةً لدى الأميركيين، بل ربما هم متورطون فيها على إيقاع مصالحهم، إلاَّ أن موقفهم يختلف مع إزاحة الرئيس المصري السابق محمد مرسي من السلطة بعد الثلاثين من يونيو رغم أن الحالة واحدة!
إذاً، البعض يُكرِّر ذات الانتهازية الأميركية بتمامها ثم يشتم أميركا ويحرق علمها! هذه مشكلةٌ في التفكير العربي. هي مشكلة لأنها تنزع صفة الفعل ذاته، وتتلاعب بها لأهداف خاصة. كيف تستقيم النظرة إلى الأشياء ما دامت الدوافع منحازة ومنبعها فاسداً! الظالم في مكان هو مظلوم في مكان آخر! والحكم ديمقراطي في مكان وديكتاتوري في مكان! والضحية شهيد في مكان وإرهابي في مكان آخر! إنه تفكير عقيم وأعوج.
كيف يتجاوز المرء عقده الطائفية والعرقية والآيدلوجية، فلا توقفه تلك الكوابح عندما يري أن المبدأ يتطلب منه أن يقول خلافها. الجنرال إيتوربيد أرسلته السلطة كي يحارب الفلاحين المكسيكيين، لكنه صُعِقَ من هَوْل الحيف الواقع عليهم فانضم إليهم وقام بإعلان استقلال المكسيك قبل مئة وثلاثة وتسعين عاماً، ولم تمنعه إسبانيته وانتماؤه أن يفعل غير ذلك.
هؤلاء لا يعلمون، أن ما يجري هو حتميةٌ تاريخيةٌ، وبالتالي لا يمكن لهم أن يوقفوا عجلة التاريخ. فقط عليهم أن يختاروا أين يمكن أن يُسجلوا أسماءهم وفي أيّ سجل كي يذكرها التاريخ بعد حين. والتجارب أمامنا كثيرة. وبطون الكتب تفيض بتجارب الدول والإمبراطوريات، التي انهارت وأصبحت أثراً بعد عين. وبعد أن كان قادتها قاتلين أصبحوا مقتولين. وبعدما كانوا يُصفّدون الناس بالأغلال، أصبحوا هم في هذا الحال. لا مشكلة في ذلك سوى أننا ننسى كثيراً ولا نتعظ.
ومن المفيد هنا أن نذكر ما أورده شهاب الدين النويري في الإلمام من حادثة عجيبة، وهي أن الحسين بن القاسم كان وزيراً للمقتدر، ثم عُزِلَ وأُبعِدَ عن العراق. فلما تولَّى ابن مُقلة الوزارة، سَعَى لِقتلِهِ ليتخلَّصَ من منافسته، فأرسَلَ إليهِ مَنْ قَطَعَ رأسَه، وحُمِلَ الرأسُ إلى دارِ الخلافة في سَفَطٍ وجُعِلَ السَّفَطُ في الخزانة طبقاً للعادة المُتبعة. وفي أيامِ المتقي، حَصَلَ اضطرابٌ في بغداد، ونُهِبَت بعض أجزاء دارِ الخلافة ومنها الخزانة، فأُخرِجَ السَّفَطُ وإذا فيه رأسٌ ويَدٌ مقطوعة عليها رُقعَةٌ مكتوبٌ عليها: هذه اليد يدُ أبي عليٍّ بن مقلة، وهذا الرأسُ رأسُ الحسين بن القاسم، وهذه اليد، هي التي وَقَّعَت بقَطعِ هذا الرأس!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4188 - الأحد 23 فبراير 2014م الموافق 23 ربيع الثاني 1435هـ
هذا مصير الظالمين
أيك اعني وسمعي يا جارا.....
مقال رائع
تشكر ودام قلمك
شكرا
ايجاز منصف
العبر
ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار.
واقع
مقال رائع دمت لنا ودام قلمك ..
احسنت
مقال في الصميم، بارك الله فيك
مقال رائع
تحليل دقيق وجميل ، أوجزت وضعنا ومواقف الموالين والسلطة بعبارات موجزة وذات معاني كبيرة ، شكرًا أيها الباحث المتميز
مرسي يانكوفيتش
سيناريو الغباء السياسي اشترك فيه مرسي ويانكوفيتش . الاخير لم تكن له شعبية كبيرة لذلك فضل الهروب ليس عن حكمة ولكن عن عزلة داخلية . مرسي اطلق ميليشياته تقتل وتخرب وتحرق الوطن .يانكوفيتش لم يكن له ظهير شعبي ومرسي كانت له اجندة خارجية .محاولة فصيل واحد اختطاف اي دولة لن تنجح لاسيما اذا كان يعمل وفق املاءات وولاءات خارجية .هؤلاء وحدهم من يستحقون البصق عليهم لانهم ببساطة خارجون عن الوطن.
احنا غير
احنا مسلمين ولكن بعدين عن الشريعة
المفارقة كبيرة
الحاكم الأوكراني مواطن اصلي مخلص لوطنه لكن الغازي ليس له انتماء بل همه السرقة والتخريب وهذا واضح للعيان والفارق بين الاثنين كبير
العور في العيون والخلل في النظر
البعض اصبح اعورا وبه مشاكل في النظر يرى البعيد وينسى ما بقربه بل يتناسى بل يحاول تضليل الناس
تمام
تحياتي لك على المقال
شكرا
انصفت الروس والاوكرانيين والعرب
عبد علي البصري
عندما يخرج الاسد من العرين ؟؟ عنوان شديد اللهجه ما شهدناه من قبل يا أخي العزيز .
اخخ
العنوان يعوّر ...مقال موفق
فأعتبروا ياأولي الالباب !!
" وهذا الرأسُ رأسُ الحسين بن القاسم، وهذه اليد، هي التي وَقَّعَت بقَطعِ هذا الرأس! "