في قراءة التاريخ مُتْعةٌ بمنغصّات. مُتْعةٌ لأنها لحظية؛ بعدها ما يبعث على القرف والتبرؤ من جزء كبير مما حدث. متعة التشهّي والتمنّي والتخيّل. مُتْعةٌ الحصار بالمرارات وتراكم الأخطاء. هل في ذلك مُتْعَة؟ باستيعاب وفهم تلك المنظومة التي أسَّستْ لكل ما نشهده من كوارث وتخلّف واستباحة للإنسان والحياة!
وتظل قراءة التاريخ مُتْعةً من حيث النظر والاستقصاء والمقارنة واكتشاف عدم تغيّر الحال كثيراً. عدم تغيّرها مذ جُعِل البشرُ جزءاً من المتَاع الذي يُورَّث، ومصائرهم بيد من تولّى أمورهم عن اختيار أو غصْب. وللاختيار حكايته وطرق الالتفاف أيضاً. كأننا شعوب الغصب وأممها. غصْب لا يصنع إلا العُقد والذهاب في تخريب الحياة أو تعطيل طاقاتها، بما يُفْرَدُ لها من مساحات عملاقة من التهميش. لا أحد يجرؤ على التحدُّث عن مجرد هامش. هو أكبر من ذلك بكثير.
وقراءة التاريخ تعجُّ بالمنغصّات لأنه حاضرٌ بالشواهد والممارسات والعقلية والإجراء والتقرير وتخطيط مصير بشر وأمم وحيوات. منغصّات لأن الأخطاء والفظاعات لا تنفكّ تتْرى وتتدافع وتتكرر بما يشبه الانتحار وأخذ البشر رهائن حتى يتم إقرار ما يُراد إقراره. كأن أعظم إنجازات من تحكّموا في مصائر هذه الأمة هو إعادة تدوير وإنتاج الفظاعات والأخطاء والانتهاكات والتجاوزات، وعلى التاريخ أن يقف على قدم واحدة احتراماً لموهبة النسْخ تلك! موهبة لا موهبة فيها بالتكرار الغبي والسَّمِج.
وفي التاريخ الذي نقرأ حِيَلٌ وخبْثٌ وتبريرٌ لتأبيد ما حدث. تمريره لكل مستقبل. هل يكون مُستقبَلاً ذلك الذي وظيفته استقبال أخطاء الماضي واستنساخها وتراكمها والحرص على توالدها؟
سأكتفي في هذا المقال بحوادث من أسفارِ ومتون التاريخ؛ مع عناوين تناسب ما نتوهّم أنه حاضر، وما نتوهم أننا منهمكون بالقفز به إلى المستقبل.
التاريخ سيد أزمنتنا؛ بهيمنته على التخطيط والسياسات و»إتيكيت» المعاملات؛ إذا ما اعتبرنا نفي الإنسان وإخراجه من دائرة الوجود إلغاء أو قتلاً فيه شيء من «الإتيكيت»!
فقط للتذكير: من كتبوا التاريخ تحت إغراء المال وإرهاب القوة والبطش، يظلون شركاء في جزء كبير مما حدث بالأمس واليوم وغداً. إرهاب المال والقوة والبطش لا يبرر العبث بحياة الذين عاصروا وما بعدهم. ما بعدهم، نحن ضحايا مُتْعَة نفر، وعُقد آخرين، بما أحدثوه من تنغيص وإتلاف لمعنى حيوات الناس إلى المستقبل الذي مازلنا نتوهّم حضورنا فيه، في ظل عقلية استبدّ بها التاريخ ولا تحتاج إلى استبداده كي تكون كذلك!
والمضيء من ذلك التاريخ، لا يُراد له أن يبْرز من دون رُخْصة وإذْن. الفتوحات مضيئة. التفاصيل فيها مؤذية ومخزية، ولا يُراد لها أن تبرز على السطح أيضاً لأن في ذلك خزياً لمن أمروا بها وأنجزوها!
المضيء الذي لم نعرفه في ذلك التاريخ لم يتم رصْده ولا يُراد رصْده، وخصوصاً حين يكون منشغلاً ببعده الأخلاقي والقيمي. كان زمن قوة وهيمنة وبطش ومال؛ ولم يكن في كثير مما أحدث زمن أخلاق وقيم. تلك حقائق مؤذية؛ لكن الأكثر أذى منها أن تُقدّم لنا كنماذج باعتبارها خلاصة الأخلاق والقيم وهي على الضد من ذلك!
***
ما الذي تغيَّر؟
«كان المأمون العباسي يقول: يُغْتَفَرُ كل شيء إلا القدْح (الذمُّ) في الولي، وإفشاء السرّ، والتعرّض للحرم»! أما المعتصم فكان «يحب جمع الأتراك وشراءهم من أيدي مواليهم، فاجتمع له منهم أربعة آلاف، فألبسهم أنواع الديباج والمناطق المُذهّبة والحلية المُذّهبة، وأبانهم بالزيّ (ميّزهم) عن سائر جنوده. وكانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام (أهل البلد) بجريها بالخيول (اليوم نيسان باترول وكروزر ويوكن وسوبربان) في الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك (اليوم الغاز) فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة أو شيخ كبير أو صبي أو ضرير (اليوم امرأة تضرب 13 في وقت واحد وأيضاً الأطفال!)».
***
التاريخ... الطائفية... الاختراع!
«بلغ من عداوة دلف لأبيه، (القاسم بن عيسى العجلي، وكان سيد أهله، ورئيس عشيرته، من عجل وغيرها من ربيعة، وكان شاعراً مجيداً وشجاعاً بطلاً)، ونصبه (النصب كره آل بيت علي بن أبي طالب وعداوتهم) ومخالفته له، لأن الغالب على أبيه التشيّع، أن شنّع عليه بعد وفاته (وقتها لم تؤسس بعض القنوات الفضائية أو حتى قناة صرف صحي)، وهو ما حدّث به محمد بن علي القوهستاني قال: حدّثنا دلف بن أبي دلف، قال: رأيت في المنام آتياً أتاني بعد موت أبي، فقال لي: أجب الأمير، فقمت معه، فأدخلني داراً وحِشَة وعرة، وأصْعدني على درَج منها، ثم أدخلني غرفة حيطانها أثر النار، وفي أرضها الرماد، وإذا به عريان واضع رأسه بين ركبتيه، فقال: كالمسْتفهم: دلف؟ قلت: دلف. فأنشأ يقول (من بحر الوافر):
فلو أنّا إذا متْنا تركنا
لكان الموت راحة كل حيِّ
ولكنّا إذا متْنا بُعثنا
ونُسأل بعده عن كل شيِّ!
***
جزء مما كتب من تاريخ صار علينا أن نعتنقه ونعانقه بحكم الأمر الواقع وتواصل مشروعات الكارثة مذ تلكم الأيام، وعلينا أن نؤمن ونعتنق ونعانق حاضراً مشوّهاً معوّقاً بحكم تشوّه وإعاقة غابرة، وعلينا أن نكون أبناء المستقبل وصنّاعه، نحن الذين مازلنا مرتهنين لما يفرض علينا من تاريخ اصطناعي!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4188 - الأحد 23 فبراير 2014م الموافق 23 ربيع الثاني 1435هـ