كأن العبيد يهتفون لمزيدٍ من عبوديتهم. هكذا أفهم الأمر. أحوالهم هي هي. ما دون الهامش، ووقود لحروب ومواجهات وفتن لا علاقة لهم بها؛ أو بحسب تعبير أحد المفكرين «هي حرب بين فريقين، لا يعرف أحدهما الآخر، لحساب فريقين يعرف أحدهما الآخر، ولكنهما لا يتقاتلان بأنفسهما».
يحدث في وقتنا وحتى قبل وقتنا، أن يعرف أحدهما الآخر في استدراج طرف مُتحكَّم فيه بالإرث والتكوين العقدي واستمراء الأوضاع كما هي، إلى ما يشبه الحروب من دون أسلحة بثقيلها وخفيفها. هناك حروب الإلغاء والتكفير، وهي في مفاصل تاريخية ومعاصرة أشدُّ خطراً من الحروب التي تقفز إلى ذهننا والذاكرة!
يقود ذلك إلى بعض نتاج المفكّر الاجتماعي الإيراني علي شريعتي في «رسالة إلى من هلكوا من العبيد أثناء بناء الأهرام»؛ لكنه في نتاجه ذاك يتتبّع عبودية مجردة من أدنى إمكانات مواجهتها والعمل على وضع حد لكل تلك السخْرة التي أدمنها الأسياد؛ على العكس من عبيد اليوم بعبودية اختيارية تشعرهم - وهماً بأنهم أحرار - لا أدري كيف يتفق الأمران لكن ذلك هو واقع الحال!
في الرسالة نفسها بعد أن يُمهّد شريعتي لتفاصيل بسيطة عن زيارته إلى مصر والوقوف على واحدة من عجائب الدنيا (الأهرام) يكتب: «رأيت على مقربةٍ من الأهرام أكواماً من الحجارة، وقد وضعت من غير ترتيب. سألت عنها، فأجابني الدليل، إنها قبور جماعية عميقة، حفرت ليدفن فيها من هلك من العبيد أثناء العمل الشاق في بناء الأهرام. فقد نقل ثلاثون ألف رقيق حجارة الأهرام (800 مليون حجر) في ثلاثين عاماً، وكان مئات منهم يسقطون كل يوم من الإعياء ويلفظون أنفاسهم الأخيرة، فيأمر الفرعون بدفنهم في حُفَرٍ تحيط بالأهرام، ليظلوا يحيطون به في موته، لتخدمه أرواحهم في الموت كما خدمته أجسادهم في الحياة».
بعض عبيد اليوم يعلّمون الناس أسس ومفاهيم وقيم الديمقراطية، وفي الوقت نفسه هم في حلف نفسي وروحي مع المضاد والعدو لها. بعضهم مرّ وجاب وتخرّج من جامعات ليست في مجاهل وأدغال إفريقيا. من هناك: أوروبا، أميركا، وبعض ديمقراطيات آسيا؛ على رغم ندرة ديمقراطيتها؛ لكنهم لم يغادروا دائرة السيد والقبيلة وعادات وتقاليد وممارسات القمع والمصادرة التي ظلت جزءاً لا يتجزأ من تكوينهم النفسي واضطراب ذهنيتهم وتيقنهم بلا جدوى الخروج على القطيع الذي لم يعرفوا غيره وبالوراثة!
***
عبيد اليوم يتجاوزون عدد الثلاثين ألفاً ولا يحتاجون إلى أن ينقلوا 800 مليون لوح من الحجارة العملاقة لمدة ثلاثين سنة وعبر مسافة تصل إلى 900 كيلومتر لبناء قبور لأسيادهم الأحياء، يبنون لهم ما يعتقدون أنها دار قرارهم والخلود. لا يحتاجون أيضاً إلا أن يكونوا أسرى أو سبايا في حروب، ويتم وضعهم في الخطوط الأمامية لحروب لا تنتهي وقد تكون ضد بني قومهم وأهليهم. عبيد اليوم يعتمد منسوب عبوديتهم بقدر صمتهم وهتافاتهم وتصفيقهم لكل شيء والتكبير أحياناً حتى لـ «النحْنَحَة»، وحتى إفْراد دراسة جامعية لها!
عبيد اليوم سيتحصّلون على منافع جراء عبوديتهم الاختيارية التي يجدون فيها أفقهم. منافع لا تتعدّى المؤقت، وعلى حساب غيرهم، ممن تتم محاصرتهم لأنهم آثروا إدارة ظهورهم لعوز المؤقت على قيمتهم وكرامتهم وشرفهم وحريتهم وأخلاقهم عموماً، تلك التي لن تكون قيمة وكرامة وشرفاً وحرية وأخلاقاً إذا تواطأت مع المؤقت وكانت أسيرة ومرتهنة له: المؤقت ومن يديرون شئونه في الوقت نفسه!
***
في دراسة حمدي حسن حافظ: «تكنولوجيا الذات... دراسة عن ميشيل فوكو (1926-1984) (Practice of the self Techniques) تقصّى فيها أخلاق فوكو عبْر سؤاله المحوري في معظم دراساته التي تناول فيها المعرفة والسلطة والمؤسسات العقابية: كيف يمكن للذات أن تسلك بمعزل عن المعرفة والسلطة؟ ذاك هو السؤال الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي، «بعد أن تعرض لفضح وكشف آليات وتقنيات السلطة في تحقيق موات الإنسان المعاصر ونفي فاعليته وهضم استقلاله، وخنقه داخل بنى معرفية مصنوعة خصيصاً لغرض حبس الذات في أنماط سلوكية محددة».
***
لو قُدّر لفوكو أن يكون بيننا اليوم لأربك عبيد اليوم جزءاً من مشروعه. ما تحدّث عنه فيما يتصل بتقنيات السلطة في تحقيق «موات الإنسان ونفي فاعليته» لا ينعزل عمّا نراه اليوم من مبادرات العبيد ولكن في رفْد تلك التقنيات بشكل تطوّعي واختياري، وتعمل على تطويرها؛ مادامت ستضمن حياة لا بأس بها ولو ذكّرت بالأشياء!
***
أيها العبيد: اتحدوا لمزيد من امتداد عبوديتكم. العالم لم يعد صالحاً للاستعمال البشري!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4184 - الأربعاء 19 فبراير 2014م الموافق 19 ربيع الثاني 1435هـ
لا خروج على القطيع الذي لم يعرفوا غيره وبالوراثة
لا خروج على القطيع الذي لم يعرفوا غيره وبالوراثة :نحنُ مجانين إذا لمْ نستطعْ أن نُفكّر، ومتعصبون إذا لم نُرِدْ أن نُفكّر، وعبيدٌ إذا لم نجرؤ أن نُفكّر
المختار الثقفي
كنت أتعجب من عبدة البقر (علماء ودكاترة.. الخ) في القرن العشرين وتقديسهم لبولها ( وموت وهلاك الالاف بسبب سد الطريق من قبلها، الا إلا انني ادركت أن عبّاد (بضمن العين وتشديد الباء) البقر أهون من عُبّاد الإنسان للإنسان، فعابد البقر يضمن لبني جنسه الحرية كل الحرية في اختيار من يحكمه ومن يعلمه ومن يدرسه ومن يطببه، نقيض ذلك عباد الإنسان الذين يرفضون الحرية وإن قال اسيادهم أنتم احرار.