بعد انتظار أحد عشر شهراً، تشكلت حكومة لبنان الجديدة التي ضمت 24 وزيراً، بينهم وزيرة وحيدة هي القاضية أليس شبطيني، التي علّل البعض تسميتها بحرص رئيس الجمهورية على وجودها من حصته، أو ربما لصلة القرابة به؛ فيما فسّرها آخرون بـ «ترضية» لسمير جعجع، علماً أنّ اسمها ارتبط بملفات «العمالة»، حتى قيل أنّها مختصة بالإفراج عن عملاء «إسرائيل»، وطبعاً كان ردها: «أنا أؤدي عملي ضمن القانون ونصوصه».
تألفت الحكومة بعد وتيرة اتصالات واجتماعات ومشاورات متصاعدة، ومفاوضات محاصصية بين ممثلي القوى كادت أن تضيع فرصة تشكلها. أعدت مسودة التشكيلة الوزارية وتعرضت للتغيير مراراً ودارت حولها خلافات عاصفة، لاسيّما على خلفية «الفيتو» السابق ضد مشاركة حزب الله، والإصرار على تشكيلها بصيغة «الأمر الواقع» الأمر الذي لم يكن للأخير وحلفائه السماح بذلك.
ولدت الحكومة في خضم اجتماعات بين تياري «المستقبل» للحريري، و»تكتل التغيّير والإصلاح» لميشال عون حول الحقائب والاستحقاق الرئاسي، وكذا أجواء سادها التوتر الأمني وسلسة تفجيرات انتحارية تركت خسائر في الأرواح والممتلكات. كما تبادل خلالها الفرقاء الاتهامات وأطلقت التهديدات من تنظيمات متشدّدة ضد «حزب الله». وعلى الرغم من ذلك فقد جاءت كمحصلة لتقاطع متغيرات سياسية إقليمية ودولية متعلقة بما يحدث في سورية والعراق ومصر وتركيا، إضافةً إلى المفاوضات الأميركية- الإيرانية والاتفاق النووي الإيراني- الدولي، في ظل تعاظم للدور الروسي في المنطقة، وما جرى من تفاهمات بشأن مكافحة الإرهاب المدعوم دولياً وإقليمياً في العراق ضد الدولة الإسلامية (داعش). كل هذا وذاك يؤشر على الولوج في مرحلة جديدة لتقاسم النفوذ في المنطقة، في سياق الاستدارة الأميركية تجاه شرق آسيا، ما جعل الأطراف تراجع ملفاتها وخياراتها سعياً وراء تسويات لمواجهة خطر تمدّد «الإرهاب».
تبين المؤشرات الجهود الدولية للخروج بموقف سياسي ثابت يمنع تأثر لبنان بالأزمة السورية وتمرير متغيرات المنطقة بأقل الأضرار به والتشبث باستقراره وإنّ كان هشاً وتجنيبه الانفجار. فها هي السعودية تدفع بـ «وجوب تفاهم اللبنانيين فيما يعنيهم»، فيما يشجع السفير الأميركي ببيروت الأطراف على «المضي في خيار الحكومة الجامعة، وإن اقتضى الأمر تنازلاً من هنا أو من هناك»، الأمر الذي فُسّر بالضوء الأخضر كي يتخلى البعض عن الشروط و»الفتيوات» التي وضعها ويعيد جرد حساباته واصطفافاته على رغم التعارضات الجوهرية، تسهيلاً لتأليف الحكومة.
ثمة من أطلق عليها حكومة «ائتلاف»، ووصفها آخرون بحكومة «توازن الرعب» بين الفريقين الآذارييّن، وقيل إمّا أن يدفع هذا التوازن إلى خفض التوتر والاحتقان ويعيد العمل بمفهوم الدولة، وإمّا أنّ يقود إلى الانفجار من داخلها، خصوصاً مع التصريحات الاستفزازية المتمثلة برفض مبدأ «الدويلة» و»السلاح غير الشرعي»، والإصرار على تضمين البيان الوزاري للحكومة الجديد «إعلان بعبدا» الذي ينصّ على النأى بلبنان عن الصراعات الخارجية، وكذا إعلان انتهاء ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، ما يعني تدشيناً للصراع المتوقع بشأن دور المقاومة. في حين يظن بعضهم أنها تميل إلى مصلحة فريق «14 آذار» لجهة الأسماء أو الحقائب، فيما كان مكسب حزب الله الأقل، وهنا يرد الحزب أن همّه هو إطلاق الحياة السياسية وفتح نافذة للتلاقي والحوار.
وصفت أيضاً بـ «حكومة المصلحة الوطنية» كونها نالت الثقة الشعبية قبل الثقة النيابية على رغم رفض القوات اللبنانية المشاركة فيها، وقال عنها نبيه بري أنّها «ليست حكومة حيادية أو تقنية، إنها حكومة سياسية بامتياز قامت على توازنات دقيقة، أنّها (أفضل الممكن)، لا رابح ولا خاسر أو غالب ومغلوب. صحيح قوى 14 آذار أخذت حقائب الداخلية والعدل والاتصالات، لكن الصحيح أيضاً أنّ فريق 8 آذار نال حقيبتين سياديتين هما المالية والخارجية، ثمة توازناً في الحقائب الخدماتية الوازنة».
تحفظت عليها أطرف من فريق 14 آذار، لكونها تجاوزت خطوطاً حمراء سبق ووضعت، فيما رأى بعضهم أنّ حكومة (8-8-5-3) عوضاً عن (8-8-8) جاءت لصالح الفريق.
ومن جماعة 8 آذار وحلفائها من هو غاضبٌ بشأنها كجميل السيّد الذي أعلن قطع علاقته التشاورية بالفريق لأنه برأيه «فرّط بوزارة العدل، ومن يعتبر غير مؤهل للأمن فإنه غير مؤهل للعدل، خصوصاً أنّ فريقه عارض سابقاً التمديد للواء أشرف ريفي كمدير عام للأمن الداخلي».
وفي هذا الصدد يلفت الإعلامي سامي كليب في مقالته إلى أن «تشكّل الحكومة بعيد عن منطق الانتصار والهزائم، لأنها كالحزام الناسف: أمّا تنفجر قريباً أو يصار إلى تفكيك صواعقها إذا ما نضجت التفاهمات ووصلت إلى مرحلة الصفقة، وفي إطار مكافحة الإرهاب عنوان المرحلة، الأفضل أن تكون الداخلية والعدل والاتصالات بيد مسئولين من غير الطائفة الشيعية، فهذا يسهِّل الدعم الدولي للجيش في مواجهة الإرهاب المحلي، كما يضع قوى 14 آذار أمام مسئولياتها لضرب المجموعات الإرهابية في لبنان. إنّها بمثابة الباروميتر الأخطر للمرحلة المقبلة، لأنّ عوامل تفجيرها تتوازى مع احتمالات بقائها، ومن الواقعية النظر إليها كجزء من تفاهمات إقليمية ودولية مرشحة لتستمر أو تنفجر». وهو ما يتقارب وخلاصة الآراء القائلة أنّ الحكومة لو عمرت فلن تعمل طبيعياً إلا حوالي مئة يوم مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في 25 مايو/ آيار المقبل، لتتحوّل تلقائياً إلى حكومة تصريف أعمال، حيث يتقرّر وضعها ومصيرها حسب مسار الانتخابات الرئاسية، مع ترجيح احتمالية وجود فراغ رئاسي.
ثمة اعتراضاتٌ مناطقيةٌ برزت أيضاً لعدم تمثيلهم في الحكومة أبداها رئيس «التنظيم الشعبي الناصري» من صيدا: «يقولون حكومة جامعة في ظلّ الشعور بالغبن، علينا المطالبة بحقوقنا، لا نطلبها من الجماعات اللبنانية الثانية، بل نطلبها من الحكومة التي تضم كل الأطراف». ومعه أعرب رئيس الأساقفة في زحلة والبقاع عن استيائه من «عدم تمثيل زحلة»، وكذا الأمر في استياء أهالي عكار، وهو ما يستدعي السؤال عن مدى إمكانية أنّ تُشكّل الحكومة الجديدة منطلقاً نحو استحقاق انتخابات الرئاسة المقبل، وتفتح آفاقاً جديدة على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والمعيشية كما ورد في بيان تمام سلام؟
خلاصة الأمر، تبدو الأمنيات متعدّدة لكنها تحذيرية، لِمَ لا وأستاذ لبناني جامعي يحذّر من مخاطر المنزلقات بسبب حدة الاصطفاف والتعصب المذهبي والطائفي والمناطقي داخل كل فريق، خصوصاً إن لم تؤطر الخلافات دستورياً ومؤسساتياً؛ فيما خلص نصري الصايغ في صحيفة «السفير» إلى أنه «ليس مطلوباً منها إلا معجزة الاستمرار، وأن لا تنفجر من الداخل، وأن تمنع الفراغ الرئاسي حتى تحين ساعة الحلول الإقليمية. صحيح اللبنانيون تفوّقوا في لجم الانفلات السياسي وألّفوا حكومة، بيد أنّهم أثبتوا جدارتهم في التأسيس للنزاع والصراع، وبرهنوا طواعيتهم لتدخلات الخارج وإشاراته وأوامره، وسارعوا إلى التسوية المبنية على جمع التناقضات كنموذج يحتذي»!
حقاً نموذج... ويا له من نموذج!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4183 - الثلثاء 18 فبراير 2014م الموافق 18 ربيع الثاني 1435هـ
صحيح
صحيح ما كتبتي يا استاذة مني كأنك تعيشين في لبنان اللة يحفظ لبنان وينصرة