في محاضرة غير منشورة بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بتاريخ 24 أبريل/ نيسان 2013 يخلص قدري حفني (أستاذ علم النفس السياسي بجامعة عين شمس) إلى القول بأن التوافق ليس اختياراً أخلاقياً ولكنه ضرورة عندما يبلغ العنف المتبادل درجة معينة، بحيث تدرك الأطراف المتصارعة حينها صعوبة استبعاد أو إخضاع الآخر تماماً، فتبدأ التهدئة.
يستشهد حفني في ذلك بما حدث في حرب الثلاثين عاماً عندما تقاتل البروتستانت والكاثوليك قتالاً عنيفاً وضارياً، إلا أنهما اضطرا في نهاية المطاف إلى القبول بالتعايش من غير أن يتنازل أي منهما عن عقيدته، رغم أن كلاً منهما ينظر إلى الآخر باعتبار أن مصيره إلى النار، إلا أن بلوغ نقطة التوافق هذه قد يطول انتظارها وقد يكون وشيكاً على حد تعبير حفني.
أمَّا كم يلزمنا من الوقت ـ ولايزال حفني يشخّص الحالة المصرية من منظور نفسي/ سياسي ـ لنصل إلى يقين أن أحداً منا لا يستطيع استبعاد الآخر، فيرى أن مصر قد انقسمت على كل حال إلى نصفين تقريباً، ولكن مازال هناك من يراوده الأمل في القضاء على الآخر تماماً!
ما يميِّز الثورة المصرية عن سائر ثورات الربيع العربي أن لأساتذة الجامعات هناك حضوراً كبيراً وبارزاً في وسائل الإعلام المتعددة، فلا تكاد تشاهد برنامجاً سياسياً حوارياً في قناة فضائية عربية هنا، أو تستمع لإذاعة عالمية مشهورة هناك، وهي تتناول الشأن السياسي المصري إلا وسرق سمعك قول المذيع: «معنا على الخط، فلان رئيس جامعة/ أو عميد كلية/ أو أستاذ من جامعة القاهرة أو عين شمس أو الإسكندرية وما شابه ذلك»، وهذه الظاهرة صحية إلى حد كبير لما تشهده الجامعات المصرية حالياً من حالات شد وجذب، ذلك أنه عندما يتحدث أستاذ العلوم السياسية أو خبير العلاقات السياسية الدولية عن الثورة في مصر، فإنه يختلف في نظرته ومنهجيته عن غيره من المشتغلين بالشأن السياسي أو الطارئين عليه؛ لأن الخلفية الأكاديمية للأستاذ الجامعي تمنحه السعة في الأفق وتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي بشيء من الموضوعية والتوازن بعيداً عن التجاذبات في الشارع، وتشخيص الواقع من جهة أن السياسة أصبحت الشغل الشاغل للمواطن العادي المصري البسيط، وبأنها أصبحت موضع جدل وانقسام في الشارع والمجتمع المصري المعروف بتسامحه وقبوله بالعيش المشترك، ذلك المجتمع الذي ربما كان لا يولي اهتماماً ملحوظاً بتفاصيل الحراك السياسي قبل ثورة يناير 2011، لانشغاله بلقمة العيش ليل نهار، فتجد الأستاذ الجامعي المصري يطرح عدداً من الأسئلة المعمَّقة لتشخيص الواقع، من قبيل: هل سقط نظام مبارك بمجرد أن طالب المحتشدون في ميدان التحرير بسقوطه؟ أم أن مبارك ترك السلطة بقرار جمهوري تمَّ تسجيله وتوثيقه في الوقائع الرسمية بالدولة؟ وهل أن تنحي مبارك عن الرئاسة جاء نتيجة لثورة شعبية عارمة؟ أم أنه تنازل بعد ضغوطات من الجيش؟ وإذا كان شعب مصر قد ثار وخرج عن بكرة أبيه بتاريخ 25 يناير/ كانون الثاني 2011، فلِمَ تمركزت إذن أضواء الثورة بالمناطق الحضرية، في الوقت الذي كانت الصعيد والريف أهدأ من غيرها، رغم أنها كانت الأكثر فقراً وحرماناً، وبالتالي فهي المرشحة أكثر من سواها للقيام بالثورة؟ وإذا كانت الثورة المصرية بيضاء كما نقول نحن المصريون، فلِمَ إذن نسمع العديد من الأصوات المنادية بين الفينة والأخرى بالثأر والقصاص من قتلة شهداء الثورة أو من رجال الشرطة؟
ربما نجد تبايناً في مدلولات «التوافق» وضرورته وحتميته، كما أشار قدري حفني في سياق تشخيصه للانقسام الذي حدث في المجتمع المصري بعد الثورة، إذا ما قارنا الوضع بالحالة البحرينية وصعوبة قيام العملية السياسية بتعقيداتها وتداعياتها على أساس «التوافقات» التي غالباً ما تنتهي باللاتوافقات كما يذهب إليه البعض، مستدلاً بـ «حوار التوافق الوطني» العام 2011، حيث قرّرت الجمعيات السياسية المعارضة الانسحاب منه احتجاجاً على تمثيلها بـ 35 مقعداً من أصل 300 مشارك وُجِّهت إليهم الدعوة.
في يوليو من العام 2012 برز مصطلح آخر لحلحلة الوضع السياسي البحريني، وهو «التفاوض»، حيث طالبت جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) حينها بالتفاوض مع السلطة بدلاً من الحوار.
المصطلح ذاته «التفاوض»، ورد في محاضرة الأمير تركي الفيصل عن استراتيجية المملكة العربية السعودية بشأن ما يجري في الشرق الأوسط والتي ألقاها في مجلس الشرق الأوسط التابع إلى حزب المحافظين البريطاني في لندن نهاية شهر يناير/ كانون الثاني 2014، حيث قال: «إن الحل (التفاوضي) لما يجري في البحرين هو ما تسعى إليه السعودية ودول التعاون».
غاية ما في الأمر، أن المسألة ليست معركة مصطلحات، بقدر ما هي البحرين التي نتطلع أو نريد لها أن تكون.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 4180 - السبت 15 فبراير 2014م الموافق 15 ربيع الثاني 1435هـ
حوار المجانين
وهل من المعقول أن نتظر نحن أيضاً ثلاثين عاماً أو أكثر حتى يصحى أهل القرون الوسطى من مخدرهم الطائفي